الدائم والمؤقت في حياة كائن رمادي
15-أيار-2023
صباح الأنباري
قبل الدخول الى عالم الرواية شدّني عنوانها الغريب (كائن رمادي) فرحتُ أقلّبه في ذاكرتي باحثاً عن مصدر العنونة وعن ماهية هذا الكائن، وما إذا كان له وجود واقعي فعلي أو انه مجرد ابتكار من الكاتب الروائي الذي سبق له وان قدّم لنا شخصية (المهزوز) وأحاطها بما يعزز وجودها في حياتنا على سبيل المثال، وجعلنا نتتبع خطواتها في سياق خاص على مدى جغرافية الرواية. اعتقدت أول الأمر انه بصدد تناول الكائنات الرمادية الغريبة وعوالمها الخفية المجهولة، وعلاقتها بنا كبشر لنا خصوصيتنا في كون يمتد الى آخره، ولا نزال نجهل عنه الكثير، وتبين لي خلال بحثي أن الكائن الرمادي يعيش في منطقة الجوف أرضية وله مواصفات غير بشرية لكن عقله كما تبين متقدم على عقليتنا بأشواط طويلة وان التقنية التي توصل إليها تفوق التقنية البشرية بزمن ضارب في القدم، وجلّ المعلومات التي وصلت إلينا جاءت على لسان أشخاص شاهدوا بأعينهم تلك الكائنات ثم دونوا مشاهداتهم في رسائلهم الخاصة أو في محاضراتهم مثل محاضرات المهندس الأمريكي المتخصص في بناء القواعد التحت أرضية فيليب شنايدر (Philip Schneider) وما رواه عن أنفاق الأرض السرية والكائنات الرمادية، ومع أن المعلومات التي وردت فيما زعمه شنايدر لم يتم التحقق منها علمياً إلا أنها أخَذَت طريقها الى القراء المهتمين بشأن الظواهر الكونية الغامضة.
حقيقة لم أجد آصرة قوية بين الكائنين: الكائن الرمادي الغامض وكائن نشأت المصري. وتقت الى ترجيح رأيي القائل باستخدام المجاز والتشبيه حسب:
(عيناك تكاد تخترقان الجدران والسقف، حتى وجهك، تبدل لونه، كأنك كائن رمادي خرج من جوف الأرض، أو هبط من السماء، أخافك أحيانا)
ومن خلال متابعتي لشخصية الرواية وجدت أنها تتشابه أحيانا مع الكائن الرمادي المجهول. فمن هي هذه الشخصية التي استأثرت باهتمام نشأت المصري فحولها الى عمل روائي بني على سيرة (وليد) وتحولاته الاجتماعية والفلسفية.
انطلق وليد من فكرة حددت مسار حياته وبنيت على رؤية فلسفية قوامها الثابت والمؤقت، وركناهما الحضور والغياب وأيهما يستحق أن يكون هدفاً في الحياة التي فُرضت علينا ولم نخترها بأنفسنا. يقول وليد:
(أخاف أن يغيب الهدف فيحضر الاكتئاب بجحافله الصامتة الغبية، لا يصح أن أحيا مجردا من زخم الغاية، إذن لأبحث عن هدف لا يغيب عن خاطري، وأصبح عبدا له، فأكتبه على الحائط أو في مكان بارز من مفكرتي، وأصبح عليه كل يوم)
وليد إذن يريد من هدفه أن يكون ثابتا لا يغيب عن خاطره ليتشبه به، ويتمسك بخيطه على الدوام أملاً في استقرار مشاعره، وتخلصاً من تقلباتها المضطربة. ونظراً لعدم ثباته فانه ينظر الى هذا الهدف كأداة للاستعباد الذي يكرهه وليد بكل ما أوتي من قوة فما البديل في حالة كهذه؟ وكيف يتحول المؤقت الى ثابت خالد على مر العصور؟ يقترح وليد الزعامة كحل لهذه المعضلة فيقول:
(لماذا لم أرشح نفسي للرئاسة منذ عشرين عاما مثلا قبل أن تتملكني أفكار المؤقت والخلود، وهل هذه الوظيفة تجعل المؤقت خالدا؟ هل يفلت الرؤساء والملوك من نهاية كل البشر؟!)
في عيد ميلاد ابنته وقعت عينيه على صديقة للعائلة فأعجب بها وفاتحها بمشاعره ومع أنها كانت يوما ما شريكة رجل توفي ذا يوم من أيام شراكتهما إلا أنها لم تعد للتفكير في الزواج ثانية. وبشكل مباشر وبلا مقدمات تمهيدية يقول لها:
(يا سمراء أنا أحب اختصار المسافات وربما إلغاءها، ولهذا سأتزوجك غدا تحت أي شروط)
وبهذه الزيجة يحقق لنفسه تغييرا طالما سعى خلفه ليكون ذا هدف دائم الحضور على الرغم من يقينه أن كلّ شيء آيل لنهاية محتمة، أو غياب مقدّر. لقد حضرت ابنته وملأت حياتهم فرحاً، ولكن الغياب لفّها بعد أن تزوجت وغادرت بيت أبيها الى رجل آخر غيره. لقد تحول الزواج، عنده، الى نقطة في رأس سطر حياة امتدت من الولادة (الحضور) الى الزواج (الغياب) أو انقلاب الحضور المؤقت الى غياب دائم ليستمر همه الكبير، ودأبه الى التحرر من غاياته المغلقة. لقد كانت الابنة أول من قاد الرجل الى التفكير بهذا الوضع الطارئ المقيّد بالثابت والمؤقت ولهذا نراه يقرر:
(إن ابنتي أيضا شيء مؤقت، لقد غابت عني.)
ومع انه تزوج المرأة التي يناديها، كما يحاو له، سمراء إلا انه أحس أن زواجه الجديد لم يكن أداةً لثبات الهدف الذي لا يزال يسعى وراءه بإصرار وعناد. وبعد هذا بدأ وهج هدفه يتضاءل شيئا فشيئا مع أن المرأة الجديدة كانت له مثل نسمة جميلة:
(إيمان نسمة جميلة حقا، إلا أنها ليست نسمة الضرورة التي تعادل الحياة، إذ لا تخرج عن دائرة المؤقت)
وهكذا يبدو المؤقت في يقينه ضرباً من الخاتمة التي لا يحبها فالمؤقت عنده لم ولن يتحول الى دائم لأنه يموت بعد فترة وجيزة وينتهي مثل كل الأشياء الزائلة. انه يبحث الآن عن شيء ربما يجهله أو يريد الوصول إليه مع علمه أن المجهول ينتهي أيضاً عندما يصبح معلوماً.
حتى الموت لا يدوم طويلاً بوجود البعث فهو الآخر من المؤقت الذي يؤرق وليد في حياته المضطربة. فيعيد السؤال على نفسه مرارا وتكرارا (عن أي شيء ابحث؟) وهو نفسه لا يعرف لهذا السؤال إجابة شافية وافية. لقد عاش النبي نوح ألف عام وفي نهاية ألفيته مات، ومات غيره ممن عملوا على تخليص الإنسان من الأمراض ليكون خالداً، حتى الفصول تنتهي وهي مجرد تنويعات على يقين النهاية على حد زعم وليد. ومن المفارقات بين وليد وزوجه (إيمان) هو أنها تختلف عنه في رؤيتها الفلسفية وهذا أمر يسخر منه، ولهذا يقول مفلسفا علاقتهما:
(يا إيمان نحن أيضا علاقة مؤقتة بحكم الزمن والموت)
ويعتقد في يقينه أن لا وجود للاطمئنان ما دامت الأشياء موقوتة، ولأنها موقوتة فهذا هو أشدّ ما يدفعه للبحث عن خلودها ودوامها الى الأبد. وما الاطمئنان، عنده، إلا خدعة ابتكرها الإنسان ضد اللامعقول والمؤقت في الحياة. لقد وصل الى اليقين الثابت حسب زعمه مدركا:
(أن كل شيء بين قوسين، لا شيء يحكمه قوس واحد، وما نلمسه مجرد أقواس مؤقتة)
وعود على بدء يبدو لنا أن اتصاف شخصية وليد باللون الرمادي لم يأت من فراغ، بل من مجموعة ما زُرع في نفسه من قبل والديه أولا ومن كل المحيطين به ثانيا فانغرز في نفسه مبدأ (التكيف) ووفقا لهذا المبدأ صار جاهزا للتراجع أمام الحق والباطل والأبيض والأسود حتى اكتسب صفة الرمادي إسوة بمن حوله من غالبية البشر الرماديين:
(يبدو أن اللون الرمادي هو المعبر عنا لأنه مثلنا مؤقت وليس آخر أو أول درجة في لونه، ليس هناك لون رمادي واحد محدد يستطيع أن يعلن أنه هو الأصل.)
ظل وليد متشبثا بفكرة السفر بحثاً عن المجهول الذي يروم الوصول إليه وكأن السفر غايته القصوى على الرغم من انه قال بصريح العبارة:
(ليس السفر هو الغاية، وإنما الوصول إلى إجابة عما يضطرم في عقلي وصدري؟ عن المؤقت والجدوى الكونية؟)
بعد أن أتعبه اللون الرمادي وجعل منه هامشاً على صفحة الحياة التي لم يخترها بإرادته يعود ليقرر السفر ثانية وثالثة ولم تنفع معه النصيحة في غباوة تضييع الوقت والراحة في رصد نقطتي (البداية والنهاية) فهو كغيره راحل بما عرف أو جهل. وليد كان يعتقد بالبعث الذي يجدد الحياة فعندما يموت زواجه السابق فانه يتبعه بزواج لاحق يبعث الحياة في نفسه حتى تنطفئ جذوتها أو جذوة الزيجة الجديدة، وعليه اقترن آخر الأمر بـ(الأستاذة رحمة) وعاش معها فترة غير قصيرة وخلف منها ابنته (صفاء) التي اعتبرها مؤقتة هي الأخرى:
(يا ألله، قلبي يخونني، ويلتصق بالمؤقت الجديد، صفاء)
وفي غمرة الأحداث، والاضطرابات النفسية والفكرية يحدق في المرآة فيفاجأ بوجود رجل ليس هو على ما بدا له لحظتها ولم يتعرف على وجهه الرمادي الذابل وعندها يصل الكاتب الى ختام روايته بأن جعل وليد يفقد رمز سفراته المكررة ورحيله الدائم نحو المدن الجديدة كحالة من حالات البعث والتجدد والخلود وتركه أخيرا يفقد (حقيبته الرمادية) وينظر إليها متهاوية نحو المجرى المائي الذي ابتلعها وغيبها الى الأبد. يقول في سطر الرواية الأخير:
قررت أن أسافر غدا إلى الدكتور أحمد لإجراء العملية، ومعي صفاء وأم صفاء.
وبهذا تنتهي رحلة الكائن الرمادي من دون أن يتحقق حلمه الكبير في الوصول الى الدائم الحاضر الأبدي، والتخلص من المؤقت الآيل للغياب.

أستراليا 2023






النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech