د. حميد مسلم الطرفي
ما الذي يجعل الشعوب ترضخ للدكتاتورية على حساب الديمقراطية؟
لماذا تفشل الديمقراطية في بعض المجتمعات بتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة؟
يحمل البشر منذ ولادتهم خاصيتين نفسيتين(غريزتين) راكزتين في اذهانهم ومبررتين في عقولهم وهما أُسّان من أسس المشكل السياسي في تكوين الدول والأنظمة السياسية عبر العصور التاريخية المختلفة وهما:
1- الطاعة والخضوع رضاً وقناعة أو خوفاً ورهبةً.
2- حب السيطرة والجاه استشعاراً لمسؤولية التغيير نحو الأفضل (حبّاً للغير) أو رغبةً في التسلط على الغير (حبّاً للذات).
بوجود هاتين النزعتين لا يمكن لأي مجتمع بشري أن يستقر ويستمر من غير حاكم ومحكوم (وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن. ويستمتع فيها الكافر. ويبلغ الله فيها الأجل. ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو. وتأمن به السبل...).
كل ما اجتهد به الفلاسفة وفقهاء الأنظمة السياسية يقع في تنظيم هاتين النزعتين والخروج بما هو أفضل لتنظيم العلاقة بين صاحب السلطة والخاضع لها فمنهم من رأى حكم الأكثرية (الديمقراطية) وآخرون رأوا حكم الأقلية (الأوليغارشية) وآخرين فضلوا حكم الفلاسفة أو الحكماء، ومنهم من اختار الديكتاتورية المستبدة العادلة (المستبد المستنير)، حتى وصل الأمر إلى دعوة الناس للخضوع إلى الحاكم الغالب، أي الخضوع لحكم القوي الذي يحسم الصراع على الحكم بالغلبة والقهر.
مما تقدم فإن أرقى الشعوب وأكثرها تحضراً قد تخضع للديكتاتورية، فاليونانيون خضعوا لـ(كاليجولا) ابن أخت نيرون الذي أحرق روما برمتها وقتل أمه، وكان (كاليجولا) يجبر وزراءه أن يأكلوا مما يأكل حصانه، والألمان خضعوا لهتلر النازي، والروس لستالين الشيوعي، والايطاليون لموسوليني الفاشي والكلام يطول.
إن بقاء الشعوب لمدة طويلة تحت نير الاستعباد وحكم الديكتاتور يغير من طباع الكثير من أفرادها فيؤمنون بمنطق القوة على حساب قوة المنطق، ويرون الخضوع بالقهر أفضل من الخضوع بالقناعة، وأن سجية البشر أن ينفذوا الأوامر بالخوف والرهبة من العقاب وليس بدافع الحب والاحترام للحاكم، وإن الحاكم ظالم وإن عدل في نظر المحكومين، فلابد له من أن يظلم لتستقيم الأمور.
الديمقراطية تعني حكم الأكثرية، وهي بذلك تواجه خطراً مميتاً، يضربها في الصميم، فهي تعاني اليوم مما بات يعرف بـ (الشعبوية)، وهي خطاب سياسي قائم على التزييف والمراوغة والحيل السياسية خطاب غير حقيقي يغري الأكثرية من العامة عبر محاكاة أمزجتهم وغرائزهم ليجعلهم يصطفون معه في الانتخابات خلافاً لمصلحة المجتمع والدولة، فالصناديق لا تفرز دوماً الأصلح والأفضل لاختيار الحاكم أو الممثل الأجدر لتحقيق تطلعات الشعب.
وبناءً على ما تقدم باتت فكرة المستبد المستنير أو الديكتاتور العادل تلامس أذهان قطاعات واسعة من الشعوب، متناسيةً أن التاريخ لم يحدثنا إلا عن أنفار معدودة من الديكتاتوريين الذين اتصفوا بالعدل والاستنارة، وان السلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما يقول مونتسكيو، فالديكتاتور يتمسكن حتى يتمكن، وغريزة حب السيطرة والتسلط لديه تنمو مع قوته وقوة حرسه حتى يتحول إلى إله في الأرض (ما علمت لكم من إله غيري)، (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وان الديكتاتورية العادلة قد لا تصلح إلا مع امام صادق ناطق بالحق ومعصوم ومسدد من الله لا يساوي الحكم عنده إلا كعفطة عنز أو ورقة توت في فم جرادة تقضمها إلا أن يقيم به (بالحكم) حقاً أو يدفع به باطلاً كما كان يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام.
أخيراً فإن ديمقراطيةً عرجاء تلقى الله بأموال الشعب أفضل ألف مرة من ديكتاتورية مستبدة تلقى الله بدماء شعبها وأمواله، مع الإشارة إلى أن الإصلاح والتوق إلى الأفضل ديدن الشعوب المتحضرة وتلك مهمة النخب المثقفة والمثابات الاجتماعية والدينية والطبقة الوسطى ممن يحظون بالاحترام ووفرة البدائل يمضون على بصيرة من أمرهم ولا ينفذون أهواء غيرهم ممن يستبدلون الرمضاء بالنار والله المستعان.