محمد عبد الجبار الشبوط
الفريد مارشال Alfred Marshal (١٨٤٢-١٩٢٤) عالم كبير من علماء الاقتصاد في بريطانيا. هو احد اباء ما يسمى المدرسة الكلاسيكية الجديدة في الاقتصاد. سبق لي ان قرأت عنه، لكن لم يسبق لي ان قرأت له الا قبل ايام حين اشتريت كتابه المعروف في اوساط علماء الاقتصاد "مباديء علم الاقتصاد" Principles of Economics" الصادر عام ١٨٩٠. يقع الاطلاع على هذا الكتاب ضمن مشروعي في التثقيف الذاتي عن تطور الفكر الاقتصادي من ارسطو وافلاطون الى راولز مرورا بالفارابي وابن خلدون و ادم سميث وريكاردو وكارل ماركس وماكس فيبر وشومبيتر ومحمد باقر الصدر ومارشال نفسه وغيرهم بطبيعة الحال. كنت اريد ان اعرف النظريات الاقتصادية لمارشال ضمن سياق تتطور و تتابع النظريات الاقتصادية لهولاء المفكرين العظام وصولا الى بلورة فكرة عن اقتصاد الدولة الحضارية الحديثة.
لكن مارشال فاجأني في الصفحة الاولى من الكتاب وهو يقول: "ان القوتين العظميين في تاريخ العالم هما الدين والاقتصاد". ومضى يقول: "ان التأثيرات الدينية و الاقتصادية لم تبتعد عن الصدارة ولو لفترة من الوقت؛ وهي دائمًا ما تكون أكثر أهمية من كل الأشياء الأخرى مجتمعة. إن الدوافع الدينية أقوى من الدوافع الاقتصادية". لم يكن مارشال اول من ربط بين الاقتصاد والدين، بطبيعة الحال، فقد سبقه الى ذلك العالم الالماني ماكس فيبر (١٨٦٤-١٩٢٠) الذي تحدث عن دور الدين في صعود الرأسمالية في كتابه "الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" الصادر عام ١٩٠٥. ومن المفهوم ان الرجلين كانا يتحدثان عن الدين المسيحي وليس غيره من الاديان، كما فعل مثلا الفرنسي مكسيم رودنسون في كتابه "الاسلام والرأسمالية" الذي صدرت ترجمته العربية عام ١٩٦٨. والفرق كبير بين الدين المسيحي والدين الاسلامي على الاقل في الجانب الاقتصادي. فالثاني يحتوي على كمية كبيرة من التشريعات الاقتصادية تكفي لاستنباط نظرية اقتصادية منها كما فعل المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر. لكن الحديث عن دور الدين في التاريخ، ودوره في الحياة، ودوره في الاقتصاد، من قبل عالم اقتصاد اوروبي رأسمالي هو الذي فاجأني. فلم اكن اتصور مارشال سوى مفكر علماني لا يرى للدين دورا مهما في الحياة بصورة عامة فما بالك في الاقتصاد، مع انني اعرف ان للدين مثل هذا الدور منذ فجر الحضارات الانسانية الى اليوم. فقد سار الدين او اذا شئت الاديان جنبا الى جنب مع الحضارة، ولا اعرف حضارة ما بدون معبد او كاهن او نبي، حتى اصبح من الصحيح القول ان الدين ظاهرة تاريخية حضارية. صحيح ان التاريخ شهد قيام دول تنفي الدين من الحياة، لكن التاريخ اثبت ان عمر هذه التجارب قصير، اذ سرعان ما تنهار التجربة اللادينية ويعود المجتمع المحكوم من قبل نظام لا ديني (او قل من قبل نظام ملحد ان شئت) الى الدين. وما الاتحاد السوفييتي عنّا ببعيد. والسبب في ذلك هو ما كشفه السيد محمد باقر الصدر حين تحدث عن سنن التاريخ وانواعها الثلاثة وهي: السنن الحتمية، والسنن الشرطية، والسنن التي تشكل اتجاهات عامة في التاريخ. يستطيع الانسان ان يتحدى السنن من النوع الثالث، اي الاتجاهات التاريخية العامة، لكن هذا التحدي لا يستمر الى الابد، وانما يستمر الى فترة محدودة ثم ينهار. وبين الصدر ان الدين، في احد وجهيه، هو من هذه الاتجاهات التاريخية العامة، مثله في ذلك مثل قانون الزوجية الذي يستطيع الانسان ان يتحداه لفترة من الزمن كما فعل قوم لوط، او كنا تفعل الحضارة الغربية الان، لكن هذا التحدي لن يستمر، بل مصيره الانهيار. خلاصة المسالة ان الدين ملازم للانسان حتى لو قرر الانسان ان يكون لا دينيا.