الرائد ستيفن كينغ ينظف فوضى الجريمة المنظمة
1-كانون الثاني-2023
سلمان زين الدين
"بيلي سامرز" هي الرواية العشرون للكاتب الأميركي ستيفن كينغ التي تصدرها الدار العربية للعلوم - ناشرون في بيروت، ولعل العكوف على ترجمة هذا العدد من الروايات للكاتب نفسه يعود إلى أنها الأكثر مبيعاً حول العالم، كما تبين بعض القوائم العالمية لبيع الكتب، من جهة، إلى أهمية الكاتب وتعدد اهتماماته الكتابية والفنية وغرابة العوالم المرجعية التي يمتاح منها، من جهة ثانية، فستيفن كينغ الروائي والقاص والسيناريست والصحافي والممثل والمنتج والمخرج، يشكل ظاهرة أدبية وفنية أميركية من حيث تعدد اهتماماته وغزارة إنتاجه وروائية رواياته وغرابة عوالمه المرجعية، ما يفسر الإقبال على قراءته وترجمته ونيله عديداً من الجوائز التقديرية، وتحويل عديد من رواياته إلى أفلام سينمائي، وهي روايات تدور في أجواء من الرعب والإثارة والخوارق والفانتازيا السوداء والجريمة المنظمة والخيال العلمي والواقعية السحرية، وعلى دونية هذه الأجواء في العالم المرجعي الذي يمتاح منه الكاتب، فإنه استطاع بحرفيته العالية أن يرقى بها إلى مستوى الأدب الروائي.
القاتل النزيه
في "بيلي سامرز" لا يشذ كينغ عن الأجواء المذكورة، ويتناول عالم الجريمة المنظمة في الغرب الأميركي، وما يكتنفه من صراعات على السلطة والمال والأعمال، تتمخض عن ممارسات عنفية تطفو على سطح الرأسمالية المتوحشة في ذلك العالم، على أن مقاربة كينغ له تختلف عن سواه بتقديمه صورة القاتل النزيه الذي يستهدف الأشرار دون سواهم، ويلتزم أدبيات معينة في ممارسة عمله، ويأخذ على عاتقه تطبيق العدالة على المجرمين والانتقام للضحايا وإعادة الأمور إلى نصابها، وهذا ما نراه في أحداث الرواية.
بيلي سامرز الذي يطلق كينغ اسمه على عنوان الرواية هو قاتل مأجور، ينوء بماضيه المثقل بذكريات قاسية جعلته ما هو عليه، ففي طفولته يشهد مقتل أخته الصغيرة دهساً بأقدام خليل أمه السكران، ويضطر إلى قتله دفاعاً عن النفس، وفي صباه، ينشأ في دار رعاية اجتماعية ويعيش يتم الأب وتخلي الأم، وفي شبابه، يلتحق بمشاة البحرية ويشارك في الحرب على العراق ويبرع في أعمال القنص، حتى إذا ما عاد إلى بلاده تلقي به براعته في القنص بين يدي وسيط القتل نيك ماغاريان الذي يعهد إليه بقتل بعضهم مقابل المال، ويتحول إلى قاتل مأجور، غير أنه في ممارسة هذه المهنة لم يتخل عن شرط أن يكون القتيل سيئاً، فيستحق صفة القاتل النزيه، وهكذا، يكون حاضره نتاج ماضيه، فهل يفلح في تحرير مستقبله من هذا الحاضر؟
الشخصية المحورية: في إطار ممارسة مهنته يكون على سامرز أن يقتل جويل راندولف ألين، السجين المدان بالاغتصاب والقتل على باب المحكمة قبل إدلائه بمعلومات تدين مشغليه النافذين، مقابل مبلغ كبير من المال، حتى إذا ما أنجز مهمته بنجاح في النصف الأول من الرواية، يكون عليه الهرب إلى منزل آمن في وسكنسن على مسافة 1000 ميل من مدينة ريدبلاف التي تجري فيها عملية القتل، غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي سفينته، فهو حين يتوجس شراً في نوايا مشغليه ويستشعر رغبتهم في التخلص منه بعد التنفيذ، يغير اسمه وشكله ويتوارى عن الأنظار في شقة يستأجرها في شارع بيرسن. وحين يمتنع مشغلوه عن تحويل معظم المبلغ المتفق عليه إلى حسابه، يتأكد من نواياهم في النصب عليه والتخلص منه، ويقرر الحصول على حقه والانتقام منهم، وهو ما يشغل النصف الثاني من الرواية، وبذلك يلعب سامرز دور الشخصية المحورية في الرواية بنصفيها الأول والثاني، وتتعالق معه شخصيات بأدوار مختلفة تطول أو تقصر، حسب مقتضى الحال الروائي، غير أنها لا بد منها لاكتمال المشهد العام، فستيفن كينغ يتقن توزيع الأدوار على الشخصيات المختلفة، ويبرع في توقيت ظهورها على مسرح الأحداث بمقادير معينة لا زيادة فيها ولا نقصان. تدور أحداث النصف الأول من الرواية في مدينة ريدبلاف وضواحيها، ويشترك فيها، إلى الشخصية المحورية بيلي سامرز، وسيط القتل نيك ماغاريان، ومنتحل صفة الوكيل الأدبي جورجيو بيغليللي، والمتمول كين هوف وغيرهم، ويعقدون الاجتماعات التحضيرية للعملية، ويتنقل سامرز بين المنزل الريفي في ميدوود والمكتب في الطابق الخامس من برج جيرارد المطل على المحكمة، وتستخدم في هذا القسم تقنيات انتحال الشخصية وتغيير الاسم والشكل والتنكر والتزوير، فيقوم البطل بانتحال صفة كاتب ويغير اسمه من بيلي سامرز إلى ديف كولردغ، ويتنكر بشعر مستعار ويستخدم هوية مزورة ويتجنب الاقتراب من الناس، حتى إذا ما أنجز مهمته يتوارى عن الأنظار. وهكذا، تميط الرواية اللثام عن طبيعة عمل رجال العصابات، وطبيعة العلاقات في ما بينهم القائمة على الحذر والشك وعدم الثقة والنصب والغدر وتصفية الحسابات.
مطاردة وانتقام
إذا كانت أحداث النصف الأول تجري في منطقة واحدة، وتتناول الجريمة بين التحضير والتنفيذ، فإن أحداث النصف الثاني تتوزع على مناطق متعددة تفصل بينها مئات الأميال، وتتراوح بين شارع بيرسن في ريدبلاف، وإيدغوود ماونتن درايف، وشيروكي درايف في بلدة بايوت، ومونتوك بوينت وغيرها، وتتناول السعي إلى استعادة الحق ومعاقبة النصابين ورؤوس العصابة، وهو ما يحصل في نهاية المطاف، وتنخرط فيها إلى الشخصيات السابقة شخصيات أخرى تتعالق مع الشخصية المحورية، بشكل أو بآخر، من قبيل بوكي هانسون شريك بيلي وصديقه، وروجير كليرك المتربع على عرش إمبراطورية إعلامية والعقل المدبر للعملية، غير أن الشخصية الأهم التي تطرأ على أحداث هذا القسم وتكون لها تداعياتها، وتشارك الشخصية المحورية في محوريتها، هي أليس ماكسويل الفتاة الجامعية التي تتعرض للاغتصاب، ويقوم سامرز بمساعدتها والاعتناء بها ومعاقبة مغتصبيها، ما يؤدي إلى ملازمة أحدهما الآخر وتعلقه به، هو يرى فيها أخته القتيلة وابنته التي لم ينجبها، وهي ترى فيه الحبيب المحتمل، وتصر على مساعدته على تحقيق أهدافه في استعادة حقه والانتقام من المجرمين على رغم حرصه على إبعادها منه خوفاً على مستقبلها، وهنا تتمخض العلاقة بينهما عن مجموعة من المشاعر الإنسانية النبيلة التي تضفي على الرواية جواً رومنسياً يخفف من واقعيتها الفظة القائمة على فوضى الجريمة المنظمة، ويفتح الأحداث على آفاق إنسانية راقية، وهو ما يتحقق في نهاية الرواية.
من خلال هذين النصفين يفكك ستيفن كينغ طبيعة العلاقات في عالم الجريمة المنظمة، تلك القائمة على الحذر والشك وعدم الثقة والنصب والغدر والقتل وتصفية الحسابات من جهة، ويراهن على انبثاق نوازع إنسانية من قلب هذا العالم تطبق العدالة على المجرمين وتنتصر للضحايا، وتعيد الأمور إلى نصابها من جهة أخرى، وهو ما تؤيده الوقائع الروائية المختلفة وسلوكيات بطل الرواية التي تكسر الشخصية النمطية للقاتل المأجور وتفتحها على إمكانات التوبة ومراجعة الذات.
شخصية مركبة
يركب كينغ في روايته شخصية مختلفة للقاتل المأجور، تجمع بين الاحتراف المهني الذي لا يعبأ بالاعتبارات الأخلاقية من جهة، والسلوكيات الإنسانية المرهفة من جهة ثانية، فبيلي سامرز الذي مارس القنص في العراق، وارتكب القتل المأجور في الولايات المتحدة، هو نفسه الذي يلعب المونوبولي مع الأطفال في شارع إيفرغرين، ويعتني بالعشب ويثرثر مع الجيران ويعتني بأليس ماكسويل، ويتجنب الجلوس مع بعضهم خشية الاشتباه فيهم، ويروي النباتات في شقة جيرانه، ويكتب سيرته الذاتية الروائية، وهي ممارسات إنسانية بامتياز، ناهيك باقتصار أعمال القتل التي قام بها على الأشرار، وبذلك نكون أمام قاتل نزيه يقصر عمله على فئة محددة من الناس، وهو ما يتنافى مع شخصية القاتل المأجور، ما يطرح واقعية الشخصية على بساط البحث، ناهيك بأن النزاهة لا يمكن أن تشكل مبرراً للفتل. إلى ذلك، تشكل السيرة الذاتية التي كتبها في إطار انتحاله صفة الكاتب، رواية داخل الرواية، فيجمع سامرز بين بطولة الرواية الأصلية وكتابة الرواية الفرعية، على أن الروايتين تتجادلان وتتناغمان في النصف الأول من الرواية، على رغم الاختلاف الكبير في المكان والزمان الروائيين بين الولايات المتحدة في عام 2019 في الأصلية والعراق في عام 2004 في الفرعية، وتتحدان في النصف الثاني وتشتركان في الشخصيات والمكان والزمان الروائيين.
والمفارق أن العلاقة التكاملية التي تنشأ بين سامرز وأليس في النصف الثاني من الرواية المعيشة تجد ترجمتها في الرواية المكتوبة حين تقوم أليس بإكمال الكتابة من حيث انتهى سامرز، وإن اختلفت النهاية بين الكاتبين، على أي حال، نحن إزاء عمل روائي مركب في بنيته الروائية، سلس في مجراه رشيق في لغته متنوع في مشاهده مغرق في تفاصيله مهندَس بإتقان، ما يجعل قراءته محفوفة بكثير من المؤانسة والإمتاع.