مهى سلطان
شكلت أعمال الرسام موندريان اللغة المشتركة الجديدة التي كان يطمح إليها الأعضاء المؤسسون لمجلة De Stijl (أي الأسلوب) القادرة على إظهار نفسها في جميع المجالات، حتى في الشعر الحديث- بفضل أنتوني كوك، الذي اختزل اللغة إلى عناصرها الأساس، الكلمة والحرف. أما في الهندسة المعمارية والأثاث فإن منزل شرودر (أوترخت، 1923-1924) من تصميم جيريت ريتفيلد مع كرسي موندريان الأزرق والأحمر (1918)، من بين أكثر المنازل مثالية.
عدد لا يحصى من الفنانين تأثروا بأعماله، ليس الرسامون أو المهندسون المعماريون والمصممون فقط بل والمخرجون السينمائيون أيضاً، مثل جان لوك غودار على وجه الخصوص فيLe fou Pierrot عام 1965، أو مصمم الأزياء إيف سان لوران وفستانه المسمى "موندريان"، الذي أطلقه عام 1965، وصولاً إلى تصاميم المنتجات الاستهلاكية المأخوذة من أعمال موندريان وأشهرها تصاميم لوريال. كل ذلك يشير إلى أهمية العقلانية المتشددة لعمل موندريان التي أضحت مطلباً أساساً لبعض فناني اليوم الذين يعملون في إطار "الفن البصري" و"فن المينمال" بوصفه الفن العملاني البسيط.
السعي إلى المطلق
ما سر الانتشار الهائل لموندريان وحركة دوستيجل؟ وهل ثمة جديد يمكن أن يقال عن هذا الفنان الذي تشعبت جذوره في ذاكرة الفن وميادين الحياة على مدى أزمنة ممتدة من الحداثة إلى المعاصرة حتى قيل بأننا نقطن في بيوت وأبنية مصممة على طريقة موندريان؟ يخبرنا الكتاب الذي أصدرته حديثاً دار "سيتاديل وموزنود" للناقدة والقيمة الفنية بريجيت ليل Brigitte Leal (450 صفحة)، عن الفنان الهولندي بيت موندريان (1872-1944) بأنه "طور عملاً تصويرياً ونظرياً كبيراً بصبر ومنهجية، من خلال سعيه إلى المطلق. إذ إن طموحه لم يتوقف عند الأبعاد الضيقة للوحة. كان فناناً طوباوياً صاحب رؤية، وكان يحلم بعالم متطهر من كل الجماليات التقليدية، ليتحول من طريق التشكيلية المحدثة Néo-Plasticisme، إلى اكتشاف عالم مختلف، وهو ما زال يواصل ممارسة سحره على فن اليوم".
يأتي هذا الكتاب كثمرة للمعرض الذي نظمته بريجيت ليل عن موندريان وحركة دوستيجل في مركز جورج بومبيدو عام 2011، وما رافقه من دراسات معمقة، أسهمت في الإضاءة على جانب مهم، يتعلق بتأثيرات إقامته في باريس على دوافعه الفنية. إن ولادته في نهاية القرن الـ19 في بلدة ريفية صغيرة في شمال شرقي هولندا لعائلة مسيحية كالفينية، لم تترك مجالاً كبيراً لحريته الخاصة لاكتشاف عالم مختلف. لكن موندريان عرف مهنته في سن مبكرة جداً. في زيلاند عام 1908 كانت موضوعاته الأولى المقطوفة من الطبيعة ثابتة: الكنيسة، المنارة، الكثبان الرملية، البحر، الخطوط الأفقية والعمودية، المتكررة إلى أجل غير مسمى، ترسم رؤية جديدة لمساره الفني.
تأثير الديانة الثيوصوفية
بدأت أزمة المراهقة الوجودية بالنسبة إلى موندريان في سن الـ36. يتضح هذا من خلال المناظر الطبيعية الكبيرة التي رسمها في غابة قرب أولي Oele والتي يرجع تاريخها إلى عام 1908. رسم تساقط جذوع الأشجار وأغصانها، في مسارات طويلة بين الكروم التي تحجب قماش اللوحة وتغلقه. لا مزيد من المنظور أو الأفق، حتى اللون يبدو أنه في حال سخونة واختناق على السطح الأمامي. بيوت نائية في الغابة وأغصان الأشجار العارية عبارة عن عقد من الثعابين ورؤوس قناديل البحر ومتاهات وهاويات من الأغشية. هلوسة في هلوسة، لكننا ندرك في فوضى الخطوط هذه الحاجة إلى المواجهة. أما برج كنيسة دومبورغ الذي رسمه عام 1910 فهو عبارة عن كتلة حقيقية من الهاوية، ولكنه مشع بضوء أخضر مزرق، والدوار الخاص به يعطي بشكل غريب إحساساً مهدئاً.
خلال هذه الفترة الانتقالية تحول موندريان، الذي كان يتردد في شبابه بين مهنة الرسام والواعظ الكالفيني، إلى الثيوصوفية (الشرقية) والفلسفة الهيغلية، بعد لقائه شونميكرز وهو قس كاثوليكي انقلب ثوصوفياً، تأثر موندريان بكتابه الذي سماه التصوف الإيجابي أو الرياضيات التشكيلية، التي اعتمدت على حكم النسق الأساس للأضداد، وقد أقر شونميكرز بثلاثة ألوان أساسية (الأزرق والأحمر والأصفر). فكانت محاولته الأولى لإدخال المحتوى الثيوصوفي في الرسم تعود إلى عام 1911، من خلال ثلاثية عنوانها "التطور" عبارة عن مذبح يمثله جسد امرأة عارية كهنوتية، ترمز إلى ثلاث حالات من الإدراك الروحي.
"بعد الفوضى، ها هو النظام يتحرك. هناك نوعان من الفنانين تقول بريجيت ليل: أولئك الذين يحترقون مع براعم القمح وأولئك الذين يصلون إلى فنهم في منتصف حياتهم. موندريان ينتمي إلى الثاني. كان في الـ40 من عمره عندما وصل إلى باريس. جاءها متأخراً وكأنه ليبدأ حياة جديدة. كانت نظرته قد فقدت كل حضورها وأهميتها الذاتية وبشاشتها. كما أن قطع الارتباط بأرض أجداده توافق أيضاً مع التغيير في الكون التصويري. بالنسبة إلى موندريان، من المهم، بالنظر إلى عمره، أن يجد نفسه في الطليعة".
عزز استقراره الأول في باريس بين عامي 1912 و1914 قدرته على تبني اتجاهات العصر. وأخذت لوحاته تتميز بحضور تأثيرات الحركات الفنية العظيمة للقرن الـ20 التي كان يتبعها رسام أمستردام التي حاول دائماً القيام بها، في الأقل متأخراً قليلاً. هناك نلاحظ لمحة من أسلوب مونخ، وهنا نكهة فان غوخ، والقليل من تنقيطية سورا، ووحشية فان دونجن، وعدد لا بأس به من الاقتراضات من لوحة الألوان السمراء لماتيس والخط في أشكال سيزان ثم براك، وهو اتبع تسلسلية مونيه المثيرة للاهتمام. ثم وجد أن الشخصية التكعيبية، التي قام بيكاسو وبراك بتفكيكها وإعادة تشكيلها، تنم عن فوضى الجسد وآفاق تداعيات الحرب العالمية الأولى: الألوان مملة، موحلة مثل الخنادق. انغمس موندريان في الحركة التكعيبية وحركة الفن التجريدي المبكر (حركة كاندينسكي أو فرناند ليجيه أو ديلوناي أو بيكابيا)، ولكن كما لو كانت رافداً وليس تأثيراً مثبتاً. وتشهد اللوحات التي تعود إلى أعوام الحرب الباردة على عمل طويل في إعادة بناء شخصيته الفنية. من تأثيرات التكعيبية رسم سلسلة الأشجار المشهورة كمتتابعات تجريدية على الفكرة الواحدة، التي تعتبر من الرسوم الفريدة في ذلك العصر.