الروائي السوري حيدر حيدر يرحل في منفاه الداخلي
6-أيار-2023
سامر محمد اسماعيل
غادر عالمنا أول أمس الجمعة، الروائي حيدر حيدر عن عمر ناهز 87 سنة بعد معاناة مع المرض، وأعلن نجله الناشر مجد حيدر الخبر باقتضاب عبر حسابه الشخصي على "فيسبوك"، "الفهد غادرنا إلى ملكوته"، مستعيراً عنوان رواية "الفهد" التي كتبها الروائي السوري عام 1968 عن سيرة البطل الشعبي أبو علي شاهين، لتتحول عام 1972 إلى فيلم روائي طويل بتوقيع المخرج الراحل نبيل المالح، ونعاه اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة السورية في بيانين مطولين.
تعد روايات حيدر حيدر انعطافة في تاريخ الرواية السورية، وبمثابة سِفر خروج من رواية تسجيل الواقع وتقليده، وتمرداً على ما كان يسمى في الستينيات بالرواية الاجتماعية الوصفية، أو تلك المشغولة بالأحداث والوقائع، وكان الأسلوب التعبيري هو التغيير الجذري الذي أدخله صاحب كتاب "كبوتشي" (1978) إلى نصوصه، مولياً اهتماماً خاصاً بالعالم الداخلي للشخصيات الروائية، وغائصاً في مجالات علم النفس واللاشعور الفردي والجماعي، فقد كان الزمن في الرواية الوصفية الاجتماعية قبل حضور حيدر يجري في شكل وقائع يومية مملة على عكس الرواية التعبيرية التي كان صاحب "الفيضان" 1975 أبرز أقطابها. فقد نجح في إحالة الزمن المستمر في السرد التقليدي إلى زمن متناوب ومتقطع، محاكياً بهذا التغيير أسلوب تيار الوعي عند جويس وبروست وفوكنر وفرجيينا وولف.
ترك حيدر أثراً في الرواية العربية التي اعتقد أنها يمكن أن تكون فناً ملحمياً، وتعبيراً درامياً عن الصراع ليس بين الفرد والمجتمع وحسب، بل بين قوى مناضلة صاعدة وقوى معادية للشعب وتطور التاريخ نحو المستقبل الأكثر عدالة والأكثر تقدمية، آخذاً بالاعتبار أن الرواية الجديدة يجب أن تعبر عن ملحمة صعود الإنسان الجديد في مواجهة العالم البرجوازي اقتصادياً ووعياً وفكراً. واعتبر أن الرواية العربية بلا تاريخ ولا ميراث، فهي برأيه رواية تجريبية في أسلوبيتها، وحذر من الارتهان لقصص "ألف ليلة وليلة" و"المقامات" و"كليلة ودمنة" و"القصص الدينية"، معتبراً إياها موروثاً حكائياً يمكن العودة إليه في مجال الدلالات والإشارات الأسطورية، وإغناء الخيال والجذور الأنتربولوجية، وأما استعادة شكله الأسلوبي فيوقع الكاتب في ما أسماه "الرجعة الكاريكاتورية إلى اللغة المحنطة والمنقرضة".
ذاكرة متنقلة
وتعد الذاكرة الإبداعية لدى حيدر ذاكرة متنقلة، وهذا الأسلوب شكل جملةً من التغييرات الجذرية التي كان له الفضل في إدخالها إلى الرواية السورية. حتى أن هذه التغييرات طاولت بعض الأدباء الذين كتبوا القصة القصيرة. فرواية الزمن التي انتصر لها صاحب "أوراق المنفى"1993 كانت بحق رواية الأعماق النفسية، ليقترب ابن بلدة حصين البحر (ريف طرطوس) من المحرمات وكسر التابو بأسلوب راق، وليس بأسلوب فج ومباشر. وهذا ما يبرر مطالبة حيدر التصدي في الرواية للطائفي والسياسي والجنسي فنياً، منتصراً لما أسماه بـ "أخلاقية اللغة". وكان في هدف هذا الأسلوب الابتعاد عن الإسفاف وتعرية الأشياء في شكل كامل، لتقوم معالجة المحرمات الثلاثة في الرواية بطريقة نقدية وإنسانية قبل كل شيء.
تنقل حيدر حيدر في وثبات نصوصه بين فضاءات وأمكنة مختلفة، فهو من بيئة ريفية بعيدة من المدن، لكنه أدخل عوالم المدينة وسلوكياتها في نصوصه. ففي المرحلة الريفية من نتاجه كتب حيدر مجموعة قصصية بعنوان "حكايا النورس المهاجر" 1968، وفي روايته "الفهد" من العام نفسه دخل جوانب ريفية أرخ من خلالها لسيرة متمرد في بيئته الريفية. على خلاف روايته "الزمن الموحش"-197 التي كتبها بعد الانخراط في الأجواء الثقافية والسياسية في مدينة دمشق. كتب عن عوالم الريف مثلما كتب عن المدينة والمنفى، معتبراً الثقافة لا علاقة لها بمعرفة العالم، بل هي رؤية مغايرة له، يجدها الروائي في الريفي أو المديني أو المغترب على حد السواء.
واعتبر حيدر الكاتب مغترباً وجودياً، فكان عنصر الاغتراب في أدبه، وإحساسه بالغربة الوجودية الداخلية، المركز الأساس لديمومة فعل الكتابة لديه. فالاغتراب الوجودي إزاء العالم كان بنيوياً في خلقه عالماً يرفض الوحشية والقمع والاستبداد. وهذا ما يفسر موقفه الحاسم من تحالف الدين والسياسة، ومن قمع الشعوب وإذلالها وتجويعها. وإذا كان حيدر حيدر قد تغنى بثورة الأهوار في جنوب العراق في روايته "وليمة لأعشاب البحر" 1984، إلا أنه قام بأسطرة هذه الثورة التي لم تكن بشهادة أبرز قادتها عزيز الحاج، إلا عبارة عن مجموعة من تسعة رفاق تاهوا في أحراش القصب، وصادفوا في طريقهم مخفراً للشرطة فيه بعض الحراس النائمين، فاستولوا على بعض البنادق، وتمت مطاردتهم والاشتباك معهم. ومثلها أساطير مشابهة عما كان يسمى بمنظمة "أنصار" المشكلة من بعض عناصر من ثلاثة أحزاب شيوعية، انبرت للمشاركة في العمل الفدائي. وكان هذا تعبيراً لا مواربة فيه من حيدر عن الجدل القائم داخل اليسار الشيوعي حول الكفاح المسلح، الذي تطور إلى انشقاقات كبيرة داخل هذه الأحزاب.
انخرط حيدر في الأحداث السياسية في بلاده منذ كان في العشرين من عمره، وشارك في ثورة التعريب الجزائرية بتدريسه اللغة العربية في عنابة، وأسهم في تأسيس اتحاد الكتّاب السوريين، وترجمت أعماله إلى اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والفرنسية. نتاج حيدر مقروء ورائج لدى شريحة واسعة من الجمهور، لكن صاحب "التموجات"1982 ظل في أعماقه محباً للطبيعة، ولهذا انكفأ في بلدته الواقعة على الساحل السوري منذ تسعينيات القرن الفائت، ليمضي بقية عمره في جوار البحر الذي كان مولعاً بكائناته. مثلما كان مغرماً بساعات المكوث أمام منظره، ممضياً ساعات طويلة في القراءة والكتابة. وقد أصدر أخيراً سيرة ذاتية بعنوان "يوميات الضوء والمنفى" عن دار ورد في دمشق، وروى فيها مسيرته منذ خروجه من القرية إلى طرطوس، ثم إلى حلب، ومنها إلى دمشق وبيروت، وصولاً إلى قبرص والجزائر وباريس. سيرة وقائع مديدة وطويلة، فيها كشف حيدر عن أسرار للمرة الأولى لرحلته خلال أكثر من نصف قرن منذ رحل عن "حصين البحر" وعاد إليها عام 1985.
عاش حيدر حياته متقشفاً، معتمداً على راتبه التقاعدي من عمله في التعليم، ومن حقوق كتبه من دور النشر، فلم يتقدم إلى أي جائزة عربية. وكان مقرراً منحه جائزة الرواية العربية، الجائزة التي منعها عنه تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، بعد موقفهم الصارم من روايته "وليمة لأعشاب البحر- نشيد الموت"، وما أثارته من جدل في الأوساط الثقافية.
نشر حيدر في سنواته الأخيرة رواية واحدة بعنوان "مفقود"2020 التي تندرج تحت نوع الرواية الوثائقية، وفيها حاول رفع الصوت عالياً ضد الطائفية والإرهاب، وتسجيل موقف وبراءة ذمة من الجنون السوري، لا سيما مرض الطائفية البغيضة. كانت "مفقود" إدانة لكل الأطراف التي أسهمت في قتل الإنسان السوري ومحاولة إذلاله.