الروائية الفرنسية آني إرنو تعانق جائزة نوبل لجرأتها وصراحتها وبوحها الصادق
18-تشرين الأول-2022
عدنان حسين أحمد
فازت الروائية الفرنسية آني إرنو التي بجائزة نويل للآداب هذا العام. وبرّرت اللجنة إسناد هذه الجائزة إليها نظرًا "للشجاعة والحدّة التي اكتشفت بها الأصول والاغتراب والابتعاد عن القيود الجماعية للذاكرة الشخصية". وقد رفض أندرس أولسون، رئيس اللجنة، أن يكون هناك أي دافع سياسي وراء منح الجائزة لامرأة مبدعة كتبت عن الإجهاض مؤكدًا بأنّ اللجنة "تركّز على الأدب والجودة الفنية بالدرجة الأولى، وأن يكون للفائزة تأثير عالمي في عملها، ويمكن أن تصل إلى الجميع".
تجدر الإشارة إلى أنّ آني إرنو كتبت عن الحُب، والجنس، والإجهاض، والعار، والانقسامات الطبقية وغيرها من الموضوعات التي تهمّ القارئ الفرنسي والأوروبي بالدرجة الأولى ثم القارئ العالمي بالدرجة الثانية الذي قد لا ينسجم بالضرورة مع الثيمات التي تطرحها كاتبة فرنسية متفتِّحة لا تجد حرجًا في الحديث عن ذكرياتها الحميمة، وتجاربها الشخصية، وكل الملذات التي حققتها على الصعيد الجسدي، والفكري، والإبداعي. فمثلما هناك"لذة النص" الشائعة في الثقافة الفرنسية، هناك بالمقابل "لذة الجنس" لكنهم يكتبون عنها بالدرجة نفسها من الصراحة والجرأة والبوح الصادق الذي لا تُكدّره الاشتراطات الأخلاقية التي تختلف من بلد لآخر.
لم يتأخر العرب كثيرًا في التعرّف على نتاجات آني إرنو الأدبية أو السردية عمومًا فقد ترجموا لها حتى الآن سبع روايات وكتب سردية وهي "الحدث" و "الاحتلال" و "شغف بسيط" و "العار"، و "البنت الأخرى . . . لم أخرج من ليلي" و "المكان" و "أنظر إلى الأضواء يا حبيبي" وسوف يترجمون نتاجاتها الأخرى التي جاوزت العشرين كتابًا ورواية في الأشهر القليلة القادمة آخذين بنظر الاعتبار أن رواياتها وكتبها الأخرى قصيرة وقابلة للترجمة ولا تكتنفها صعوبات جمّة في نقلها إلى العربية.
قبل أن نخوض في فحوى هذه الدراسة النقدية لابدّ من الإشارة إلى أنّ آني إرنو قد أنجزت كتابين عن "الأماكن العامة" وهما: "يوميات من الخارج" و "الحياة في الهواء الطلق" روت فيهما مُشاهداتها وانطباعتها الشخصية لكل ما تصادفه في الأماكن العامة التي تستحق الوصف والتأمل من وجهة نظرها. وهذان الكتابان من إصدار دار "غاليمار" ذائعة الصيت في باريس.
يندرج كتاب "أنظر إلى الأضواء يا حبيبي"، الصادر عن دار الجمل، ضمن نمط "اليوميات" الذي ترصد فيه الكاتبة أمكنة عامة وحميمة وهي "المخازن الكبرى" التي لم يُلتَفت إليها كثيرًا في الأدب. وقد تأثّرت إرنو بتجربة سابقة ومعروفة في الأدب الفرنسي وهي رواية "سعادة النساء" للروائي الفرنسي الشهير إميل زولا الصادرة سنة 1883م التي تدور أحداثها في مَتجر متعدد الأقسام. ورغم الاعتراف بهذا التأثر إلاّ أنّ كتاب إرنو هو "يوميات" خالصة لكنها مكتوبة بلغة أدبية تحفّز المتلقّي على القراءة وتغريه باكتشاف النهاية التي رسمتها الكاتبة سواء في ذهنها أو في المخطط المُسبق الذي وضعته لهذا العمل الأدبي.
تعترف الكاتبة بشكل صريح قائلة:"ما أكتبهُ ليس بحثًا استطلاعيًا، ولا تحريًا منهجيًا إذًا، إنما يوميات . . . كتابة حُرّة في إبداء الملاحظات والمشاعر، محاولة مني للإمساك بشيء ما من الحياة الدائرة هناك".
المتعة والترويح عن النفس
ينبغي تحديد الزمان والمكان في هذه "اليوميات" التي تبدأ من 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012م حتى تشرين الأول / أكتوبر 2013م حيث تروي الكاتبة بضمير المتكلم معظم زياراتها إلى المخزن الكبير أوشون Auchan الذي يقع في سيرجي، وهي مدينة صغيرة في مقاطعة ڨال دوّار. أما السبب الرئيس الذي يدفعها لارتياد هذا المخزن الكبير فهو سهولة الوصول إليه في منطقة "الينابيع الثلاثة" والمتعة الكبيرة التي تجدها بين جنباته. أمّا الهدف من هذه الزيارات والتقنية التي تستعملها الكاتبة فهي "الالتقاط الانطباعي للأشياء والناس، وللأجواء".
تمهّد آني إرنو ليومياتها ببعض المعلومات الجانبية التي تفيد بأنها وجدت نفسها ذات مرة تتبضّع من مخزن كبير في مدينة كاسوڨي في سلوڨاكيا لكنها لا تعرف فيما إذا كان اسم المخزن Prior أم لا؟ وفي عام 1960م دخلت متجرًا كبيرًا في إحدى ضواحي لندن التي زارتها ضمن برنامج مبادلة الفتيات. وثمة مخازن كبرى زارتها في أوقات مختلفة مثل كارفور وإنترمارشيه ولوكليرك أوسني وماجور وكونتينان وغيرها من الأمكنة الجاذبة لاهتمامها. المخزن الكبير مكان "يتخالط هذا الكم من الأشخاص المختلفين في السن والمداخيل والثقافة والأصل الجغرافي والعرقي والمظهر" ويكوّن فكرة جيدة عن سلوكهم وحياتهم، "وأنّ رجال ونساء السياسة والصحافيين و"الخبراء" كل أولئك الذين لم يطؤوا أرض المخازن الكبرى قط، لا يعرفون شيئًا عن الواقع الاجتماعي لفرنسا اليوم". أمّا آني إرنو فهي تذهب للمتعة، والترويح عن النفس، والبحث عن المعلومة، والتماهي في أجواء الآخرين، وفحص طبيعة حياتهم اجتماعيًا. يضم مخزن أوشون بالإضافة إلى المواد الغذائية أدوات كهربائية منزلية، ملابس، كتب وصحف ومجلات، وخدمات أخرى كثيرة. يرتاد الناس المخازن الكبرى خمسين مرة في السنة تقريبًا. ومن واحدة من اللافتات نستشف أنّ الماركات الراقية قليلة جدًا لأنّ غالبية الزبائن هم من الطبقة الوسطى والشعبية. كما أن مخزن أوشون يفتح من الثامنة والنصف صباحًا ولغاية العاشرة ليلاً. لا تمتلك الراوية بطاقة "الزبون الوفي" لأنها "ليست وفية لأحد" كما تدّعي. ثمة حذر في التوصيف حينما تكتب عن الأعراق الأخرى، فهل تقول عن المرأة الأفريقية "امرأة سوداء" أم تزيح عنها هذه الصفة التي تندرج في إطار التمييز والتفرقة العنصرية؟
البحث والاستزادة المعرفية
يبلغ عدد الزيارات التي قامت بها الراوية إلى أوشون 35 زيارة خلال أحد عشر شهرًا. وقد تفاوتت مساحة ما كتبتهُ بين زيارة وأخرى بحسب درجة الإثارة والانفعال والتماهي بما تراه من بضائع أو ما تتفاعل معه من أحداث تقع أمام ناظريها. ففي 8 تشرين الأول / أكتوبر 2012م ترصد زحامًا شديدًا في مخزن أوشون لكن الذي يلفت نظرها أكثر من الزحام والإعلانات التي تروّج للبضائع ويخطر ببالها في الحال هي حركة Femen التي أُسست في أوكرانيا سنة 2008م للدفاع عن حقوق المرأة وقد اشتهرت هذه الحركة بمظاهرات نسائها العاريات الصدر اللواتي يكتبن شعاراتهن على هذه المساحة المثيرة. ومما لا شكّ فيه أنّ هذا التعالق يحفِّز المتلقي على البحث والاستقصاء والاستزادة المعرفية. تلفت الراوية انتباه القارئ إلى الممنوعات مثل قراءة الصحف والمجلات، وتحذره من التصوير إلاّ بعد الحصول على إذن من إدارة المتجر لكنها فيما يشبه اللقطة السينمائية الخاطفة تلفت الانتباه إلى امرأة خمسينية تقود عجلة تنظيف الأرضيات.
في كل زيارة تقوم بها إرنو ثمة معلومة تغذّي بها ذاكرة القارئ فهي تلفت الانتباه إلى أنّ هناك صندوقًا مخصصًا لمن يشتري أقل من عشر سلع، ويستعمِل هذا الصندوق غالبًا الشباب، وقِلّة من الناس الذين تجاوزوا الخمسين. قد تبدو هذه المعلومة عادية وبسيطة ولا تضيف شيئًا إلى القارئ لكننا ما إن نتأمل الراوية في زيارات لاحقة حتى نعرف أن هذا الصندوق أو تلك السلّة أو عربة الـ Caddie إنما تكشف عن هُوية المتسوِّق ويمكننا أن نعرف فيما إذا كان أعزبًا أو متزوجًا، سعيدًا أو حزينًا، يحب الحيوانات أو ينفر منها.
تحضر الجوانب الاجتماعية والدينية والنفسية في هذا المخزن الكبير من خلال لمسات خفيفة وإشارات خاطفة، فما إن تعدِّد الراوية بعض المنتجات العالمية لا لكي تستعرض عضلاتها المعرفية وإنما لكي تقول لنا أنّ هناك قسمًا للأطعمة الحلال المخصصة للمسلمين، وأنّ هناك "الكوشر" Kosher ( )المُكرّس لليهود، ولو دققتْ الكاتبة أكثر لوجدت أطعمة خاصة بعشرات الديانات الأرضية والسماوية ومنحت النص بُعدًا كونيًا يتجاوز حدوده المحلية. فهي تُدرك جيدًا أن القارئ العضوي يبحث عن هذه التعالقات المدروسة ويعتبرها جزءًا أساسيًا من نسيح النص ومتنه السردي. في الزيارة التي تليها نتعرّف على اللمسة الأسطورية التي تعتمد على نتوء حقيقي وأغصان مطعّمة بالخرافات، فإذا كانت الإشاعة تسري كمسرى النار في الهشيم لتخبرنا بأنّ عائلة مارسيل فورنييه هي التي أنشأت أول مخزن "كارفور" في ضاحية آنسي "وأنها تأكل في صحون من ذهب"! وحينما ندقق في هذه الإشاعة سنكتشف بأنّ فورنييه لم يكن وحده المؤسس لهذا المخزن الكبير وإنما كان معه الشقيقان دينيس وجاك ديفوري اللذان فلتا من الإشاعات والأقاويل الأسطورية.
استعباد العمّال البنغاليين
تمتلك آني إرنو خلفية يسارية فلاغرابة في أن تضع الطبقة العاملة نصب عينيها وفي صُلب اهتماماتها حيث أشارت في هذا الكتاب إلى ثلاث حوادث مأساوية وقعت كلها في بنغلاديش، البلد الفقير والمكتظ سكانيًا الذي يصل تعداده إلى أكثر من 165 مليون نسمة. تتحدث إرنو عن حريق دمّر مصنع غزل ونسيج "تازرين" مات على أثره 112 شخصًا غالبيتهم من النساء كانوا يعملون براتب شهري قدره 5,29 يورو ولكم أن تتخيلوا طبيعة الفقر والحرمان الذي يعانيه الإنسان البنغالي. ثم تضيف الكاتبة بأن مبنى المصنع يتألف من تسع طبقات ومن المُفترض ألاّ يتجاوز الثلاث طبقات وقد حوصر العُمّال داخل المبنى ولم يستطيعوا النفاذ بحلودهم. وهؤلاء العمّال الفقراء كانوا يزوِّدون سبعة مخازن كبرى من بينها أوشون وكارفور وپيمكي وغو سبورت وغيرها. تُرى كم هو حجم الاستعباد الذي يعاني منه الإنسان البنغالي الذي يعمل لمدة شهر براتب لا يستطيع أن يشتري به قميصًا واحدًا من آلاف القمصان التي ينتجها طوال حياته؟ أمّا الحادثة المُفجعة الثانية فهي انهيار مبنى من ثماني طبقات بالقرب من العاصمة البنغالية داكا راح ضحيتها 200 مواطن فقير. تضم البناية مشاغل لصناعة الألبسة الجاهزة التي يعمل فيها 3000 عامل لمصلحة ماركات عالمية معروفة. فيما تتضاعف الخسائر في الحادثة الثالثة التي وقعت في مبنى رانا پلازا الذي انهار وخلّف 1127 قتيلاً ومئات الجرحى وقد عُثر بين الأنقاض على بطاقات ماركة كارفور وأوشون وكاميّو وهي مخازن فرنسية كبرى كانت تستعبد العمّال وتستغل جهودهم البدنية والذهنية بطريقة بشعة. وقبل أن نطوي صفحة هذا الكتاب لابدّ أن نشير إلى أن هذه المخازن الكبيرة لا تعرض الوقت على المُرتادين كي لا يغادروا المكان بسرعة، كما أنهم لا يضعون الكراسي في بعض الزوايا التي تعيق حركة السير وتحثّ المشتري على الاستراحة والتقاط الأنفاس، فكل شيء مدروس ومكرّس لتفريغ محفظة الزبون من أوراقها النقدية.
لم ترَ إرنو كُتابًا فرنسيين يرتادون هذه المخازن وتعلّل ذلك بأنه حتى نهاية السبعينات كان غالبيتهم من أصول برجوازية ويعيشون في باريس قبل أن تنشأ هذه المخازن الكبرى فهي لم تُصادف ألان روب- غرييه أو ناتالي ساروت أو فرانسواز ساغان يتبضعون من هذه المخازن العملاقة لكنها رأت الروائي والسينمائي الفرنسي جورج پيريك( ).
تعتقد إرنو أنّ حياة المخازن الكبرى يمكن أن تختفي قريبًا مع انتشار الأنظمة التجارية الفردية مثل الطلب بواسطة الإنترنيت، وخدمة التوصيل التي تنتعش يومًا بعد يوم ليس في الطبقات الوسطى والعليا، كما تذهب الكاتبة، وإنما لدى السواد الأعظم من الناس.
رواية "المكان"، سيرة الأب الذاتية
ما من كاتبة فرنسية أو أوروپية عنيت بسيرتها الذاتية واستثمرتها في منجزها الإبداعي مثل آني إرنو. فمعظم رواياتها هي "تخيّيل ذاتي" كما يذهب نقّاد الأدب، وهذا صحيح، بل أن غالبية رواياتها مستمدة من سيرتها الذاتية والأُسرية. فرواية "المكان" التي نحن بصددها هي عن والدها "العامل الزراعي، والصناعي، وصاحب المقهى"، ورواية "لم أخرج من ليلي" عن أمها التي فقدت الذاكرة جزئيًا بعد حادثة وقعت لها في الطريق، ورواية "البنت الأخرى" عن شقيقتها الكبرى التي واجهت مصيرها المحتوم وهي طفلة، والكثير من رواياتها الأخرى عن تجاربها الشخصية العاطفية الحميمة مثل "شغف بسيط" أو المؤلمة مثل "الحدث" التي كتبتها عن فعل "الإجهاض" التي قامت به حينما كان الإجهاض ممنوعًا ومحرّمًا ويُعاقِب عليه القانون بشدة. ما يهمنا من موضوعات رواياتها وكتبها هو الجرأة وعنصر الصراحة، والقدرة على البوح بالعلاقات الحميمة الخاصة فمثلما وقعت في حُب الديلوماسي الروسي تقع أيضًا في حُب المصوِّر الذي يصغرها بحوالي عشرين عامًا ولا تتردّد في الحديث عن أي تجربة عاطفية مهما كانت خاصة لأنها مؤمنة بحق المرأة في التعاطي مع جسدها وأن تمنحه لمن تريد من عشّاقها ومحبّيها والدائرين في فلكها العاطفي.
صدرت رواية "المكان" عن دار "شرقيات" سنة 1994م ترجمة أمينة رشيد وسيد البحراوي وهي رواية تتكئ على سيرة الوالد الذاتية الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة أو "الشغيلة" إن شئنا الدقة. فالمعروف عن آني إرنو أنها ماركسية تدافع عن حقوق المرأة، وتهاجم اليمين في كتاباتها، وتناصر القضية الفلسطينية. تبدأ هذه السيرة بأن تمرّ الراوية أو الكائنة السردية باختبار علمي يؤهلها للتدريس في المدارس الثانوية وما إن تنجح حتى تهبّ اللجنة المؤلفة من ثلاثة أشخاص لتهنئتها فتكتب لأبيها بأنها قد صارت أستاذة رسميًا فيفرح الأبوان وتغمرهما سعادة مُطلقة لكنها تشعر في دخيلتها بأنها قد انفصلت عن الطبقة العاملة وانتقلت إلى الطبقة الوسطى. "الآن، أنا فعلاً برجوازية وبلا رجعة". كان الأبوان يمتلكان مقهى وبقّالة. وقد نجح الأب في تعلّم القراءة والكتابة من دون أخطاء وكان مرحًا، ومُحبًا للعب، ومستعدًا دائمًا لسرد القصص والحكايات. عمل صبي مزرعة، وعاملاً في مصنع للحبال. وكان جادًا في عمله، ولم يكن متبطرًا أو سكّيرًا أو زير نساء. لم يقرب السياسة ولم ينتمٍ إلى نقابة. وكان جذلاً ومسرورًا ومُتصالحًا مع نفسه. كانت عائلته ميسورة قياسًا بالناس الآخرين الذين كانوا أكثر بؤسًا منهم. وفي عام 1939م حرق الألمان معامل التقطير فهرب الأب بدراجة نارية وحينما عاد وُلِدت آني إرنو وكانت مثل أقرانها يُسمَون بأطفال الحرب. هنا تنتهي حياة الأب كعامل وسوف يُصبح فخورًا لأنه تخلّص من اللهجة الإقليمية. أمّا الأم فهي "قليلة الحياء" بالنسبة لسكّان القرية لأنها "أوّل من قصّت شعرها، وارتدت الثياب القصيرة، وزيّنت عينيها وأظافر يديها" وكانت حريصة على أن تبدو متطورة وميّالة إلى التجريب مع شيء من التردّد. عندما انتقلت الراوية إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة بدأت تختبر ذوقها الفني والثقافي من قبيل: هل تختار الجاز أم الموسيقى الكلاسيكية، هل تنتقي أفلام تاتي( ) أم رينيه كلير( )؟ وهكذا دواليك.
لقد ظل والدها إنسانًا بسيطًا حيث كان يقول لها وهي منغمسة طوال النهار بين الكتب أنها تستنزف صحتها لكنها كانت تخبره بأن الدراسة عذاب ضروري كي تجد وضعًا جيدًا. فيرد عليها:"الكتب والموسيقى جيدة لكِ أنا لا أحتاجهما لكي أعيش". في التاسعة والخمسين يفقد والدها اعتداده بنفسه حيث يقول:"لم أعد صالحًا لشيء". كان يوجه هذا الكلام لزوجته التي سوف تموت هي الأخرى في سن الستين بينما كانت آني تعِّد ليسانس الآداب بعد عشرين سنة من الدراسة والمواظبة والتأمل.
ذات صيف تُصحب آني معها إلى البيت طالبًا في العلوم السياسية كانت مرتبطة به ورغم أنها تحمل منه إلاّ أنها سوف تجهض هذا الجنين الذي تنصّل منه صديقها وتركها تواجه محنتها الشخصية لوحدها. يموت الأبوان بينما تواجه آني إرنو الحياة بصدر رحب وتمضي في مشروعها الإبداعي القائم على رصد الذات ومواصلة الكتابة الحميمة التي لا تحدّها حدود.
السطو العاطفي في رواية "الاحتلال"
يبدو هذا العنوان مراوغًا للوهلة الأولى ويحيل القارئ مباشرة إلى الدول الاستعمارية التي احتلت بلدانًا أخرى سواء من العالم الثالث أو من غيره. غير أن "الاحتلال" الذي تعنيه آني إرنو هو احتلال امرأة لأمرأة أخرى. فثمة عشيقة تحب صديق الراوية وتسطو عليه في رابعة النهار. ومع أنّ هذه الحالة تتكرر كثيرًا على وجه المعمورة لأنها طبيعية ومألوفة ويمكن أن تحدث ملايين المرات لكنها في هذا النص الروائي تصبح احتلالا حيث تقول الراوية:"كنتُ بالمعنى المزدوج للكلمة مُحتلّة". إنّ العشيقة مُدّرسة أيضًا لكنها مطلّقة وتسكن في جادة راب في الدائرة السابعة. ومع أنّ الراوية مدرّسة أيضًا إلاّ أنها بدأت تكره المدّرسات. أمّا حبيبها فاسمه "ليّا" الذي يتركها ويتجه صوب دومينيك فتشتعل أعماقها بالغيرة والحقد تجاه امرأة لا يمكن أن تلتقيها بسهولة وسوف تبذل قصارى جهدها من أجل الوصول إليها. تستحوذ هذه العشيقة غلى ذهن الراوية وتُصبح هاجسها الأول والأخير لدرجة أنها أصبحت مملوكة لها. فالحبيب لم يبح باسم عشيقته ولا بكُنيتها، ولا بأية نقطة دالة تشير إليها وتُفضي إلى عالمها حتى أنه ضنَّ عليها بالحرف الأول من اسمها مُعتقدًا أنها يمكن أن تسيء إليها. ثم تتفاقم رغبة الراوية إلى الدرجة التي تقول فيها "صار الأمر بمثابة هوس عليّ أن أروي غليلي منه مهما كلّف الأمر". وما إن تعرف أنّ هذه العشيقة هي أستاذة مُحاضرة في التاريخ في جامعة باريس الثالثة حتى تبذل قصارى جهدها في البحث عنها فتعرف أنها كتبت أطروحة الدكتوراه عن الكلدانيين لكنها بحثها وتقصيها يكشف لها بأنّ هذه الأستاذة لا تسكن في باريس بل في فرساي. ثم تقرر الاتصال بكل سكّان البناية التي تقيم فيها لكنها لا تنجح في مسعاها. تتّبع الراوية على مدار النص السردي كل صغيرة وكبيرة عنها حتى أن تعرف عيد ميلاد غريمتها وتقول في سرّها بأنهما سيذهبان إلى المطعم معًا ويحتفلان على ضوء الشموع. تستغرب الراوية أن يحب رجلاً في الثلاثين امرأة في السابعة والأربعين من عمرها. تحضر الساردة مؤتمرًا علميًا متعدد الاختصاصات فتشاهد امرأة ذات شعر غامق وتتواصل معها بصريًا حيث تلتقي الأعين مرات عدة وكأنها هي العشيقة التي كانت تترقّب معرفتها ورؤيتها من كثب. تنهي آني إرنو روايتها بشكل مفاجئ حينما تقول على لسان الراوية مخاطبة هذا الحبيب الذي نفر منها على حين بغتة:"لم أعد أرغب في رؤيتك، ليس للأمر أهمية".
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن لغة آني إرنو بسيطة لكنها سلسة وعميقة وتلامس المشاعر الإنسانية لقارئها. كما أن الهياكل المعمارية لرواياتها وكتبها ليست تقليدية وربما تفتقر إلى الرصانة لكنّ قارئها يستطيع أن يستجمع الحبكة من سردها الأفقي الذي يتعالق مع الهوامش التي تنطوي هي الأخرى على معلومات مفيدة وإشارات لا يمكن إهمالها أو غضّ الطرف عنها أبدًا.