السؤال العراقي الحزين
29-آب-2023
عامر بدر حسون
قال صدام حسين لأعضاء "مجلس قيادة الثورة":
- لا داعي للاجتماعات كلما اردنا اصدار قرار باسم المجلس.
لقد قررت ان أحمل العبء عنكم:
اكتبوا لي تفويضا بإصداري القرارات باسمكم دون الحاجة لوجودكم أو لتوقيعكم! وقد وافق الجميع، بسرور الخانع، وتوقفت اجتماعات مجلس قيادة الثورة. وفي 4 – 11 – 1986 وفي وقت واحد قرأ اعضاء "مجلس قيادة الثورة" (مثلك ومثلي) قرارا صدر باسمهم وبتوقيع صدام حسين يقول نصه ما يلي:
"يعاقب بالسجن المؤبد ومصادرة الاموال المنقولة وغير المنقولة من أهان بإحدى طرق العلانية من اهان رئيس الجمهورية او من يقوم مقامه، او مجلس قيادة الثورة او حزب البعث او المجلس الوطني او الحكومة.
وتكون العقوبة الاعدام اذا كانت الاهانة او التهجم بشكل سافر وبقصد اثارة الراي العام ضد السلطة"!
وانا وانت قرانا وتعجبنا وغضبنا وخفنا، واعضاء مجلس قيادة الثورة خافوا مثلنا لكنهم لم يتعجبوا او يغضبوا او يسالوا.
لم يسألوا ولم تصدر نقابة المحامين او المؤسسات القضائية توضيحا يبين الفرق بين "الاهانة بإحدى طرق العلانية" او "الاهانة بشكل سافر" خصوصا وان الفرق بينهما يعني الفرق بين الحياة والموت.. اي الاعدام والسجن المؤبد!
ولم تكتب منذ العام 2003 وحتى الان اية رسالة جامعية تتحدث عن مثل هذه القوانين ودورها في تحطيم المجتمع وجعله مذعورا حتى من نفسه!
ويمكنك ان تذكر الكثير من الاسباب لهذا، ولكني اقول ان السبب يعود الى ان جامعاتنا ما زالت تدرّس كتبا قانونية (وفي طبعات حديثة) تستشهد وكما جاء في احدها حرفيا بأقوال "السيد الرئيس صدام حسين حفظه الله ورعاه"!
ولم تصدر دراسة جامعية من الكليات المتخصصة بعلم النفس او الاجتماع تتحدث عن الجنون الذي اصاب الرئيس فدفعه لإصدار مثل ذلك القانون والحالة النفسية التي مر بها عند توقيعه:
هل كان يمر بلحظة جنون موقتة؟ ام كان مؤمنا بانه اصبح مقدسا لا يجوز الكفر به؟
وبعد صدور ذلك القرار الذي لم تجرؤ على اصداره اية حكومة في العالم، اصبحت نسبة السجناء والمعدومين بسببه تشكل النسبة الثانية بعدد السجناء السياسيين والمعدومين بالعراق.
ولم تكن هناك اية طريقة لتنفيذ ذلك القانون غير الوشاية وكتابة التقارير.. إذ لا صحافة ولا وسائل اعلام يمكن اللجوء اليها لانتقاد الرئيس او حزبه وحكومته.
ولم يكن كاتب التقرير بحاجة لأي اثبات، فكلمته امام كلمتك انت وهي لا قيمة لها.
وجمع ضابط في الحرس الجمهوري افراد وحدته وقال لهم:
- سنبعث لكم من يتهجم على الحزب والقائد فان لم تكتبوا عنه كتب هو عنكم!
وكان ثمة شيء من هذا اشاعه البعثيون في المجتمع، ولذلك كثرت كتابة التقارير على اقرب المقربين، كما استخدمت لتصفية حسابات شخصية من خلال تغييبهم بتقرير بموجب هذا القانون الذي خلاصته تحطيم اية صلة اجتماعية تقوم على الثقة. وياما كتب ازواج وزوجات على بعضهم لحل مشكلات ومطامع مستعصية.
وروت لي سجينة سابقة ان احدى طالبات جامعة الموصل كانت مسجونة معهم وهي فقدت عقلها فكانت تنهض فجأة وتقول:
- ولمادا انا خائفة؟ لقد قال لي المحقق ان تهمتي هي التهجم الخفيف وعقوبتها السجن وليس الاعدام.. ثم تبدأ الرقص الحزين على ايقاع ما تعتبره غناء:
" مو إعدام مو إعدام مو إعدام"! قبل ان تتهاوى باكية على الارض.
والحديث عن تخريب وتفتيت مجتمع بجرة قلم رئاسي يجعلني اكثر استيعابا للسؤال الحزين:
- الا يوجد بيت في هذا العراق يمكن ان يأويني ويحميني من المطاردين؟
وهو سؤال رافق الكثير ممن هربوا من الجحيم في سنوات اندحار المجتمع وموته!