السباحة ضد التيار
30-تشرين الأول-2022
د. جليل وادي
مع ان سيرة الرجل ناصعة، ولم يؤشر عليه فساد، او كلام ينال من نزاهته، وحواراته التلفزيونية موزونة، وفي دواخله روح وطنية للإصلاح، ورؤية واضحة لما يجري في المشهد السياسي، وتشخيص دقيق لمواطن الضعف في العملية السياسية، وتدرج منطقي في الوظيفة العامة، كل ذلك يؤكد تراكما في الخبرة، وعفة في النفس، وبعدا عن الشبهات، وبالتالي أمر مقنع أن يكون رئيسا للوزراء.
كثيرون يأملون خيرا بتصدي السيد محمد شياع السوداني للمسؤولية. لكن وكما يبدو لي ان حال السوداني مستقبلا كالسابح ضد التيار، وأقصد البحر، سيرانه ذاتي، جارف في غالب أيامه، ولا يتوقع لعنفوانه التوقف، وليس بمقدور أحد التخفيف من هيجانه، او التحكم بقوة جريانه، بينما طاقة السابح محدودة، وتصميمه مرهون بطاقته وليس بإرادته، هكذا هو حال السوداني في خوض غمار المسؤولية في إطار عرف المحاصصة الذي كثيرا ما شكا منه جميع الذين اعتلوا هذا الموقع التنفيذي الحيوي، وانتهوا الى دعوة المبحرين لتجربة نظام الأغلبية السياسية.
يساورني يقين ان السوداني يدرك ذلك، وان الإنجازات التي ستتحقق في إطار هذا العرف البائس لن تكافح فسادا استشرى من قمة الهرم الى قاعدته، ولن توفر خدمات ترقى الى ما يتطلع له العراقيون، وتناسب تضحياتهم وصبرهم الطويل، ولن تعيد للعراق مكانة في محيطه الإقليمي على أقل تقدير. أتمنى أن أكون مخطئا، فما عادت البلاد تتحمل المزيد من الخراب والنكبات.
جميع الذرائع التي تبرر للمحاصصة غير مقنعة، وان كانت تحت لافتة حكومة الخدمات هذه المرة، فتجربة عقدين من الزمن المرير أثبتت هشاشتها، وعدم قدرتها على النهوض بالبلاد، وأظن ان تجديد تجربتها ليس من المنطق بشيء، وكنا نأمل بعد انسحاب التيار الصدري من العمل السياسي، أن يباشر الاطاريون أنفسهم بحكومة الأغلبية طالما صاروا الكتلة الأكبر في البرلمان، لكان الأمر مختلفا تماما، ولوضعنا خطوة في المسار الصحيح، ولتناغم ذلك مع ما كان ينادي به الصدريون، ولجنبنا البلاد أزمات محتملة بغياب طرف أساس له ثقل جماهيري يتعذر تهميشه.
المراهنة الآن على مهارات السوداني في السباحة، هل سيكون قادرا على اقتلاع رؤوس الفساد ام سيطارد الذيول كما فعل سابقوه، هل يعيد أملا تلاشى، ام سيكون امتدادا لرافعي الراية البيضاء المعترفين صراحة بضعفهم في مواجهة دويلات عميقة بمآرب مختلفة تنتشر على مساحة الوطن من شماله لجنوبه، ومع ذلك لم يخجلوا، وظلوا يسمعوننا الإنشائي من الكلام والركيك من الإجراءات، بينما أفرغ المغامرون والمقاولون الدولة من مضمونها، ولم يبق منها سوى هيكل لا يرقى الى مستوى نظام عشيرة.
واثق من ان السوداني في قرارة نفسه يقف بالضد من استمرار عرف المحاصصة الذي انتعش بدعم الاطارين، وقبوله بالترشح لرئاسة الوزراء بعد أن تحسسنا نهايته الى غير رجعة، واستبشرنا خيرا بأن الجميع أدرك الحاجة لإصلاح خلل بنيوي تعانيه العملية السياسية.
أظن ان السير على وفقه مرة أخرى مغامرة جديدة قد يدفع بسببها الاطاريون أثمان باهظة من السمعة والتاريخ، ولن يشفع لهم عذر استهلك سابقا بأن جميع القوى مشاركة في الحكومة الذي كان مقنعا للرأي العام حينذاك. لا نريد لتجربة السوداني أن تكون مماثلة لمغامرة السيد عادل عبد المهدي الذي قبل بالمهمة في الوقت الخطأ، فنسف بذلك تاريخه الفكري والسياسي، ما أجبره على لزم الصمت، ولم يعد بمقدوره ابداء رأي او طرح فكرة في الاقتصاد او السياسة مهما كانت بليغة، وهو المتخصص فيهما جراء فشل الممارسة، وهذا ما يقلقنا في تجربة السوداني الذي خبر عصرين متناقضين.
أقسى المغامرات تلك التي تجازف بالتاريخ الشخصي، فلا يبقى من المرء سوى ما يخلّفه، لا أتحدث عمن يشغلهم بريق حاضرهم على عتمة تاريخه.