السردية الضائعة
20-آب-2022
جواد كاظم الدايني
لكل شعب من شعوب العالم "سردية متميزة" تعزز أصالة ووحدة انتمائه، وتوفر له من المشتركات ما يحملها على التضامن، والتعايش السلمي والقبول بالاخر، لتأسيس الدولة الوطنية الجامعة. عندما تفتقر بعض تلك الشعوب لمثل هذه السردية، او تفشل الدولة والمجتمع في صياغتها، تغلب وتسود السرديات الخاصة وتتعدد تتبعا لتعدد ثقافات وأصول مكوناتها، وهو ما يحفز الانغلاق داخل الانتماءات القومية والدينية والطائفية وما يتبعها من اختلاف في الرؤى التاريخية والسياسية والاجتماعية. يمكن للتعددية ان تثير مشاكل معقدة في تلك الرؤى وفي التمثيل الديمقراطي وحقوق المكونات. غالبا ما يؤدي الفشل في التعامل مع تلك المشاكل لصراعات خطيرة، قد تفضي في النهاية لظهور دويلات جديدة تتفكك عن الدول الام، وهذه العملية ما زالت مستمرة ليومنا هذا. تتابع ظهور الدول القومية، منذ اواخر القرن التاسع عشر، في منطقتنا بتأثير من الحداثة الاوربية والفترة الاستعمارية، تمكنت باثرها الشاهنشاهية من تشكيل ايران الحديثة، كما فعلت الاتاتوركية في تركيا، في ظل مجتمعات اكثر ثباتا واقل انقساما، قوميا ومذهبيا، من خلال تبنيهم رؤية علمانية واعتماد المؤسساتية في ادارة الدولة، التي عملت على تربية مواطنين مطيعين يخضعون لسلطة وقانون واحد. كان ذلك مسعى للحد من خطورة الهويات الفرعية وتعدد الولاءات التي يمكن لها ان تقوض نشأة الدولة القومية الحديثة.
لم يكن الملك فيصل الاول محظوظا، عندما اختير لمهمة بناء الدولة العراقية، ولم يخفِ، ذات مرة، تذمره من العراقيين بوصفهم تكتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة. كانت محاولات التأسيس للهوية الوطنية الجديدة، بحاجة لاطراد مستمر واستقرار وثبات سياسي واجتماعي، كي تأخذ مداها في التأثير وفي تربية الناس على مفهوم جديد للانتماء، يتجاوز انتماءاتهم الفرعية. كان ذلك من اجل تعزيز الهوية الشاملة وروح المواطنة، الضرورية لاستقرار الدول الوطنية الحديثة. غير ان ظروف الصراع السياسي الذي غشي هذه الدولة الوليدة، داخليا وخارجيا، مع تردي وضع المجتمعات وعمق وخطورة الخلافات القومية والمذهبية، عزز الشعور بالاغتراب نتيجة سياسات الانظمة السياسية، العسكرية والقمعية، والخلل في التمثيل السياسي وفي الحريات الاساسية. حتى مع فترات الهدوء والاستقرار النسبي، بدت ان المسألة الوطنية رخوة وغير مستقرة، وهذا ما كشفته الأحداث بعد العام 2003 ولغاية انتفاضة تشرين الخالدة. كانت سردية الكاتب سليم مطر التي نسجها في كتابه "الذات الجريحة"، محاولة كبيرة وحقيقة للرد على خطاب السلطة السياسي في محاولته اعادة انبات جذورنا في تربة للبداوة والعروبة والاسلام. افضى ذلك للتشظي الهوياتي للمكونات العراقية. كان مشروعا متكاملا لاعادة التأسيس لسردية عراقية، قادرة علي انتاج هوية موحدة وجامعة تضرب جذورها في التاريخ البعيد، سردية نكون فيها امتداد طبيعيا لاقدم حضارات العالم في بابل وسومر، بما أشار له الباحثون من ان بعض سلوكياتنا وعاداتنا واعتقاداتنا والكثير من مفردات لهجتنا وطريقة عيشنا، كانت امتدادا تاريخيا لمجتمعات تلك الحضارات. ويعني هذا، الإمكان في اننا امتداد فعلي لها ومن المفترض اننا نفخر بهذا الامتداد لانجازاتها الفكرية والعلمية والعملية وأننا اول من كتب بالحرف وسن القوانين. لم نمتلك الوعي الكافي لمد جسورنا مع تلك الحضارات واخترنا ان نضحي بها لأجل العروبة والاسلام على اثر اكثر من الف سنة، شكلت قطيعة حقيقية وعميقة مع تلك الحضارات، كنا فيها مركزا جديدا لحضارة اسلامية عالمية ناشئة. الجانب السلبي لهذه الحضارة، اننا كنا، ايضا، مركزا لصراعات كبيرة واطماع مستمرة للشعوب والاقوام القاطنة حولنا في مسعى للسيطرة والهيمنة على تلك الحضارة، وما جرته علينا من ويلات الحروب والاوبئة، عملت على تغريبنا اكثر وعمقت خلافاتنا وصراعاتنا. ولعل اسوأ فترة مررنا بها كانت خلال مرحلة سيادة الدولة الصفوية والإمبراطورية العثمانية، حيث تكرس الانقسام الطائفي وشهدنا لأول مرة حروبا أهلية وطائفية بين العراقيين.
نتحمل مسؤولية الانحطاط الوطني بتفضيل وتقديم انتماءاتنا القومية والمذهبية على انتمائنا الوطني وان كنا ندعي غير ذلك، وهذا التعدد في المرجعيات واحد من اسباب تراجع الهوية الوطنية، كما ان استعلاء السلطة على الناس واستئثارها بالدولة وعنصريتها، ولد النقمة عليها كمرجعية وطنية دفعت الناس لملاذات القومية والقبيلة والمذهب، فغدت الوطنية كتابات إنشائية وعاطفية لا جدوى حقيقية منها.