محمد الكاظم
قام مركز دراسات باستطلاع أراء الشعب السويدي لمعرفة مدى اهتمامهم بالسياسة فاتضح ان أكثر من نصفهم لا يعرف اسم رئيس وزرائهم فضلاً عن معرفة أسماء بقية الوزراء وكبار المسؤولين. معنى هذا الكلام أن المواطن -في السويد- لا يهتم كثيراً بالشأن السياسي لأنه مطمئن الى أن ماكنة الدولة مستمرة بالعمل مهما تغيرت الأسماء، وأن حقوقه كمواطن محفوظة في كل الظروف، وهذا سبب كاف بالنسبة للمواطنين لعدم الاهتمام بالسياسة، وهذا الأمر يشكل أزمة في الكثير من البلدان التي بدأت تلجأ إلى إقامة مؤسسات ووزارات وكتابة مناهج دراسية تحت شعار التنمية السياسية من أجل تشجيع الناس على المشاركة في الشأن السياسي العام لأن أغلبية مواطني تلك الدول يهتمون بالاستمتاع بحياتهم بعيداً عن ضغوط السياسية ومشاكلها، بل إن التقاليد والضوابط المتعلقة بالسلطة تصبح عبئاً حتى على الذين كان قدرهم أن يولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب، ففي اليابان مثلاً تخلت الأميرة أياكو حفيدة إمبراطور اليابان ميتشيكو عن لقبها الإمبراطوري وقررت الزواج من محامٍ بسيط متنازلة عن حقها في العرش وعن كل الامتيازات الملكية ومنها مبلغ بقيمة 1.4 مليون دولار يدفع ضمن التقاليد الملكية لعضو الأسرة الذي ينتقل إلى مسكن جديد، و أقامت مع زوجها في شقة صغيرة من غرفة واحدة تاركةً القصور الإمبراطورية، فيما قررت الأميرة النرويجية مارثا لويز الابنة الوحيدة للملك هارولد الخامس الحالي التنازل عن لقب سمو الأميرة عام 2002 بزواجها من المؤلف النرويجي آري بيهمن، وفي بريطانيا أعلن الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل تخليهما عن أداء واجباتهما الملكية، وقررا أنهما سيربيان ابنهما بين أميركا الشمالية وبريطانيا.
هذه مجرد أمثلة بسيطة للابتعاد عن (لغوة) السلطة وأحاديث السياسة.
بالطبع لا يمكن فهم دوافع هؤلاء البطرين في بلدان الشرق الأوسط الغاطسة بالسياسة حتى أذنيها، فنحن نتمثل دائماً بقول الصحافي والروائي البريطاني الشهير (جورج أورويل) الذي يقول: ((في عصرنا، لا يوجد شيء اسمه بعيداً عن السياسة، كل القضايا هي قضايا سياسية)) وهو محقٌ في ذلك، لأن كل القضايا والمشاكل التي تعاني منها شعوب الشرق الأوسط هي مشاكل سياسية في أساسها. وحلها سياسي قبل أن يكون اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو تربويًّا، بينما في الكثير من البلدان التي تعمل فيها آلة النظام بصورة جيدة لا يشغل المرء نفسه بالسياسة فهو يشعر بالاطمئنان، وعن هذه المعضلة يقول المفكر الأمريكي الشهير رينهولد نايبهور: ((إن علم السياسة يحتاج إلى المنطق، والمنطق مهارة ضيقة يتمتع بها عدد قليل من الناس، فغالبية الناس ينساقون وراء عواطفهم وبالتالي فإن أغلب الأحكام والآراء التي يطلقونها في المواضيع السياسية تستند إلى العاطفة أكثر من استنادها إلى الحقائق المنطقية)) لذلك تصبح السياسة مهنة لها ضوابطها ومحترفوها، لها أما في عالمنا الثالث فنحن نهتم كثيراً بالسياسة لأننا نشعر باليُتم، فنحن غير مطمئنين إلى أن آلة النظام تقوم بحمايتنا والمحافظة على مصالحنا، وغير مطمئنين إلى أن سياسيينا يتمتعون بالكفاءة والمنطق اللازم، لذلك ننشغل معهم ونهدر وقتنا وأعصابنا عبر الاهتمام بما يفعلونه او يقولونه، وكثرة تفكيرنا بهم تجعلنا نتخيلهم كجزء من حياتنا، ومن هذه الخيالات تخرج أسطورة الطاغية.
أخطر ما في العقل اليتيم هو أن الدولة حين تعجز عن أن تكون أباً لمواطنيها يبدأ هؤلاء بالشعور باليتم و سيلجأون الى البحث عن أب، وهذا يقود إلى صناعة الطواطم التي تنشأ عن مؤسسات وشخصيات يجري الالتفاف حولها وإلباسها صفات أسطورية ما ورائية لا يستطيع منطق السياسة أن يتعامل معها فتموت فعالية السياسة كأداة من أدوات إدارة الحياة.