الشغب المعرفي والنفاق الفكري
14-آب-2023
حكمت السيد صاحب البخاتي
كانت الحداثة نتاج أفكار وعقول عصر التنوير في القرن الثامن عشر الميلادي وواحدة من أهم افرازات تنامي وتطور البرجوازية الأوربية الناشئة، ونتاج ذلك التحول في مصادر المعرفة من الكنيسة وشروحات الكتاب المقدس الى العقل وشروحاته البشرية للطبيعة والوجود والانسان، وهكذا صاغت أفكار فلاسفة ومفكري التنوير مبادئ وقواعد الحداثة والتي شهدت أعلى تجلياتها وتطبيقاتها منذ الثورة الصناعية الثانية في القرن التاسع عشر الميلادي وانتشار الديمقراطية وأفكار الليبرالية في أوربا في هذا القرن المحوري في تاريخ أوربا الحديث.
لقد استطاع العقل الأوربي بقدراته الذاتية وظروفه التاريخية أن يبني عصر الحداثة ويرهن مصير الانسان والمجتمعات الحديثة بتحولاته وانقلاباته على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. واذا كانت تحولاته المعرفية تشكل المقدمة في بناء عصر الحداثة فإن تطبيقاته تجلت بشكل أولي وأساسي في بنية الاقتصاد/ البرجوازية، وبنية السياسة/ الديمقراطية، وثم بنية الاجتماع / حقوق الانسان.
وتمكن العقل الأوربي بواسطة الحداثة وانجازاتها في تلك البنى ان يتبوأ مركزيته التاريخية في العصر الحديث، وهنا أميل الى تسميته بالعقل الأوربي ليأخذ صفته الخصوصية وليس العقل الانساني كي لا يأخذ صفته العمومية وهو ما تميل الثقافة الأوربية الحديثة الى ترويجه وتعميمه من أجل ترويج المركزية الأوربية في العالم الحديث، وقد صار هذا العقل وفق مركزيته المطروحة أوربيا معيارا مركزيا ينبني أو يتشكل وفق مبادئ الخطأ والصواب العلميين وتخلى عن النزعة السوفسطائية والنظرية - الجدلية التي طبعت العقل الإغريقي وبدوره طبع العالم القديم بطابعه وترك بصمته المعرفية والمنهجية على قواعد التفكير والمنطق في ذلك العالم القديم.
لقد صار العقل الأوربي في عصر الحداثة أو في مرحلة التأسيس للحداثة عقلا عمليا واقعيا منتجا أعاد زمام الأمور في الوجود البشري الى قيادة العقل البشري والتي بلغ هنا وفي هذه النقطة بالذات استحواذه وهيمنته على مفهوم العقل البشري وإزاحته لكل مفاهيم العقل التي طرحتها الحضارات والثقافات البشرية الأولية والقديمة ولاسيما الأسيوية المتصلة فيها مفاهيم العقل بالفضيلة والأخلاق والقيم العليا والتي رسختها بشكل أدق وبمضمون عملي القواعد الأساسية للأديان الكتابية وشبه الكتابية، وهو ما يفسر الى حد ما هذا التضاد أو لنقل هذا الافتراق بين حداثة الغرب والدين بشكل ومضمون عام.
وقد بلغ العقل الحداثوي الأوربي مدياته القصوى وحصّن ذاته في مرجعية مطلقة للصواب الحضاري والخطأ الثقافي، وظلت تحتكم إليه في العصر الحديث معايير التقدم والتخلف وتنهج على طريقته مفاهيم السعادة بالتحلي به وقتامة الشقاوة بالتخلي عنه في ما دأبت عليه آداب وكتابات الحداثة المقلدة لصيغتها الأوربية، ورغم صدمة الحداثة الأوربية ذاتها بإزاء الحروب الكونية والإقليمية في عصرها إلا أن تأثيراتها وجاذبيتها ومعاييرها وقواعدها في الحياة ظلت هي السائدة في العالم مابعد الحرب العالمية الثانية، وقد أحرزت فيها الدول لاسيما دولنا العربية بعض انتصاراتها في البناء والتطوير والتقدم العلمي والحضاري الثقافي والاجتماعي، ولكن لأمد محدود وزمن موقوت، لأن الحداثة لم تكن حداثتنا، ولأن النهضة العلمية رديفتها لم تكن نهضتنا، ولأن الاقتصاد الذي ارتكنت واستندت إليه الحداثة تاريخيا لم يكن اقتصادنا، ولأننا كنا مقلدين في الحداثة غير مبدعين لها ولأننا كنا متواكلين على مايقدمه الغرب لنا ولسنا منتجين لكل مايتصل بحداثتنا. وباختصار كانت حداثة مستوردة طارئة غير أصيلة وهو سر فشل حداثتنا، إن سر الحداثة هو في الإبداع وليس في الإتباع.
ومن أسباب قوة الحداثة تاريخيا هو امتزاج الحداثة الأوربية بالمصالح القومية العليا للغرب التي وفرت له كل ذلك الاستحواذ على الاقتصاد والقوة التكنولوجية والعسكرية في العالم الحديث، مما انعكس على قوة مفهوم العقل بالصيغة الأوربية الحداثوية المقترحة. فلم يعد بإمكان الانسان أن يعيد هيمنته عليه او يعيد توجيهه أو توجيه حركته حتى بل صادر إرادة الانسان بعد إن صار مرتهنا بالقوة والهيمنة الإمبريالية للغرب، وهو بذلك وضع حدا فاصلا وتحولا جوهريا خطيرا في التراتبية القيمية الإنسانية بعد تأخير الإرادة كمفهوم فاعل في الحياة البشرية عبر استحواذ العقل المادي والنفعي عليها وحجزها في تابعية الربح والمصالح واستراتيجيات الدول الكبرى والحاكمة للمسارات البشرية والحياتية الحديثة.
لقد كانت الإرادة الإنسانية تنبثق عن مجموعة من القيم التي راكمتها التجربة الانسانية الطويلة في العيش على اليابسة التي بعث فيها الانسان الحياة بوسائل الري والسقي المبتكرة، وانتظمت تلك الحياة بواسطة القيم التي أسس الانسان لها من أجل حياة بشرية مشتركة، وكانت تلك اللحظة تشهد ولادة حقيقية للجماعة البشرية التي نظمت العلاقات فيها وفق مبادئ علاقات القرابة الأولية في تلك الجماعات الزراعية والتي ظهر مايعادلها أو يستبدلها في عصر الحداثة وهي العلاقات القانونية والادارية في المجتمعات الصناعية.
وقد أشارت العلوم الاجتماعية الى ذلك التمييز بين الجماعة الزراعية والمجتمع الصناعي، فالعلاقات داخل الجماعة هي ذات بعد قرابي واحد وهي نفسها التي نجدها في العائلة ثم نجدها في القبيلة ثم في الجماعة القروية وقد تتطور بتأثير التلازم بينها وبين المكان – الحقل الى جماعة مكان أو (جماعة روح) وخصائصها المجاورة والحرارة في العلاقة والتضامن بين أفراد الجماعة، أما داخل المجتمع الذي بدا مصطلحه حديثا أو بديلا عن مصطلح ومفهوم الجماعة فإن العلاقات تنضوي فيه في اطار من المصالح الخاصة وتتحول الى علاقات وظيفية وفق الحسابات والمسافات، وقد كان مصطلح المجتمع ومفهومه استبدالا دقيقا في أدبيات ومصطلحات الحداثة بعد أن أشرت تلك الحداثة أو صنفت الجماعة مصطلحا ومفهوما ضمن أدوات أو آليات المفاهيم التقليدية ونسبت تصنيفها الى عالم ما قبل الحداثة.
ويتأسس التمييز لدى عالم الاجتماع "ف – تونيس" بين الجماعة والمجتمع بناءا على أنماط الحياة الاجتماعية المختلفة، وقد أسهم المكان الى حد بعيد وروح الجماعة التي تتشكل فيه الى استحداث التعبيرات الثقافية عن العلاقة بالمكان والروح الاجتماعية الناشئة فيه، وكان في مقدمة تلك التعبيرات الاحتفالات الطقوسية التي كانت بدورها تعبير عن السعادة بالعلاقة بالحقل/ المكان الذي كان الخصب فيه وما يوفره من وفرة غذائية سر الطقس الذي تمارسه الجماعة الزراعية وتمده بالمعاني الغيبية والماورائية من اجل اضفاء القدسية على الخصب والسعادة من أجل ديمومتها، فالخصب والحقل مهدد بالجفاف ومهدد بعناصر الطبيعة القاسية وهكذا ارتهنت السعادة بالخصب والمقدس وما يمكن ان يبثا أو يؤسسا من القيم ذات الصيغ القارة والثابتة وفي مقدمتها المحافظة على الطبيعة التي استنتجتها الجماعة الزراعية من فكرة المكان/ الحقل وامتدت فكرة المحافظة هذه الى قيم الجماعة الاجتماعية والاخلاقية والوجدانية والتي رهنتها بفكرة أو مبدأ السعادة.
ولذلك نجد هذا الحنين البشري الحديث الى القرية الزراعية باعتبارها بيئة أو حقل ذكرى السعادة في الذاكرة البشرية وضامنة لسعادة الوجدان الاجتماعي العام التي أربكتها تزحزح القيم المؤسسة لها في عصر الحداثة، وهي قيم الجماعة ومبادئ القرابة الاولية بعد ان حلت محلها القيم الفردية ومركزية وسائل الانتاج وما تكفله من التقدم البشري المستمر الذي راهنت عليه الحداثة وبشرت بإنجاز السعادة من خلاله واكتسب مفهوم السعادة بالتقدم البشري بعدا حداثويا جديدا، وكذلك أسهمت الحداثة أيضا بتطور مفهوم المال الى فلسفته الرأسمالية التي منحت العمل والربح طرائق مشروعة ومقننة في أسباب السعادة لكنها أودت بالجانب القيمي والإنساني.
لقد أصبح المكان في ظل التحول الحداثي في العالم ذا بعد ضيق ومنزو في تعريف الدولة الحديثة فهو من شروط مفهوم الدولة قانونيا ودوليا، ولكن الدولة في العالم الحديث صارت مهيأة للابتلاع بواسطة الدول الكبرى ذات الحظوظ الحداثوية الأكثر إمكانا وتمكنا، وقد بدأت الحداثة بسلوك الاستعمار في بدء ازدهارها التاريخي والاقتصادي في القرن التاسع عشر الميلادي، فاستحوذت على التاريخ وعلى المجتمعات وعلى الثقافات وصنعت من العالم مكانا متصلا في البداءة التي مارستها تحت مفاهيم الوصاية والانتداب، ثم صنعت منه مكانا مختزلا بواسطة مفاهيمها التي أغرقت العالم بها ثقافيا وسياسيا واعلاميا، ثم صنعت منه عالما أسيرا لافتراضاتها وتصوراتها الكابحة للمعاني والتصورات التقليدية وبما فيها الموروث من التصورات في العلاقات المكانية والإنسانية، فصار النفي الاختياري والاغتراب الإنساني الذي يعكس أزمة المكان في الحداثة مألفا حداثويا أنتج فلسفات اللامعنى والعدمية المفرطة في التأصيل للأشياء الإنسانية وأكدت على هلامية القيم العليا الموروثة من أزمنة البناء التاريخي – الاجتماعي الأولى للحضارات والثقافات الإنسانية العتيقة العميقة الصلة بالمكان جوهريا.
فالضمير صوت الضعيف أو كما يقول نيتشه أخلاق العبيد واللاعنف سبيل الأضعف على شروط البقاء الدارويني والرحمة لغة لاتصمد أمام فروض البقاء والقوة، وهذه كانت من عوامل رفض الغرب الحداثوي للمسيحية النبوية ذات الصلة بالمكان المقدس في أورشليم - القدس وليس المسيحية الكنسية التي كان يجد العالم وله الحق فيها مبررا كبيرا للخلاص.
لكن الحداثة التي أزاحت القداسة عن الأشياء الإنسانية وكان في مقدمتها المكان الذي لم يعد مقدسا كما كان في التصورات القديمة لا سيما الدينية، لأن القداسة تخرج عن مفاهيمها الفكرية ودلالاتها العملية، وهي لم تتوقف عند حدود الرفض لكل ما يخرج عن مفاهيمها ودلالاتها وتقويماتها وشروطها وأساليب القمع المعنوي لديها، فإزاحة القداسة يمنح التحولات نحو الفوضى بعدا مركزيا وهدفا أساسيا في التنظيرات الفكرية والأيديولوجية، وقد امتدت تلك الفوضى نحو الحداثة ذاتها فلجأت أخيرا الى رفض ذاتها والانتقاص من مصدرها الوحيد والكفيل تاريخيا واجتماعيا بكل مآزقها وهو العقل الذي أطاحت بمركزيته.