عامر بدر حسون
يوم وصلت للمغرب (عام ) 1978 كانت اللغة التي ارطن بها هي لغة المجانين العدوانية التي تعلمتها من القاموس السياسي العراقي.
وسأورد مثالا للإيضاح فأقول:
ان قاموس هذه اللغة كان يعتبر كلمات مثل "الغرب" و"اوروبا" و"الاخر" مرادفات لكلمة واحدة هي "العدو"!
وما زالت غالبية من الاجيال الماضية والحالية تعتبرها كلمات تدل على معنى واحد هو العدو!
لذلك لم نفكر يومها بالذهاب الى اوروبا او اميركا لطلب اللجوء كما هو الحال الان، فقد كان اللجوء يومذاك يعادل الخيانة والتخلي عن النضال والوطنية!
وبقي هذا المفهوم سائدا حتى حصل غزو الكويت وشعر الجميع ان الدنيا انقلبت وانه ان الاوان للذهاب الى العدو الجميل!
وهو جميل لأنه يمنحك الامان والحياة الكريمة والفرص.
لكن مغادرة ذلك القاموس لم تكن سهلة على الجميع..
فقد كان هناك من يتحدث عن ان الغرب يمنح تلك الفرص للعراقيين لتذويب الروح الثورية عند المناضلين (بالاتفاق مع صدام طبعا!) حتى لا يهددوا نظامه او يهددوا الامبريالية!
وهي اشياء تبدو اليوم مثل اساطير العجائز، لكنها كانت احدى "خلاصات الحياة السياسية العراقية" في المنفى.
وعلى هذا ذهبت الى السفارة اللبنانية في الرباط وطلبت الفيزا.
فهناك يوجد الحزب والصراع بين الوطنيين والخونة، وهناك كان الفلسطينيون يدربوننا ويزودونا بالسلاح لمقاتلة نظام البعث!
وقال لي القنصل اللبناني انه لا يستطيع منحي الفيزا الا اذا اتيته بكتاب من السفارة العراقية يوافق على منحي التاشيرة!
وهو قال ان هذا اتفاق فرضته الحكومة العراقية على الحكومة اللبنانية.. وان لبنان وافق لان العراق هدد بقطع مساعداته المالية للبنان ان لم يوافق على ذلك القرار!
فعدت خائبا مدحورا من تاثير المال على الدول وعلى الاحزاب المعارضة كما سأعرف لاحقا.
وبعد ثلاثة شهور جاءني اتصال من جريدة البيان (جريدة الحزب الشيوعي المغربي) يخبرني انه يمكنني ان التحق بالعمل فيها بعد ان تأكدوا ان الحزب الشيوعي العراقي يعرفني ويوافق على تعييني!
وتركت متع الرباط وصحبة الاصدقاء ومضيت الى كازابلانكا حيث مقر الجريدة.
وبعد اسابيع من عملي في الجريدة فوجئت بانني لا استطيع ان اكتب حرفا عن جرائم النظام في العراق!
قيل لي ان الحزب المغربي مرتبط باتفاقيات تعاون ثورية مع النظام "التقدمي" في العراق! وان الحزب يبذل جهدا لإصلاح ذات البين بين الرفاق البعثيين والشيوعيين العراقيين، لان ما يجمعهم في المعركة ضد الامبريالية اكثر مما يفرقهم. وهو كلام كان شائعا في العراق ايام الجبهة!
وحضرت، بسبب عملي في الجريدة، احد مؤتمرات الحزب الشيوعي المغربي والذي استمر لثلاثة ايام.
وحضره من العراق زكي خيري (احد ابرز قادة الحزب الشيوعي يومذاك) ولم يتم التطرق في الكلمات الى العراق ومحنة رفاقهم فيه..
وقال لي زكي خيري انهم لم يسمحوا له بإلقاء كلمة الحزب الشيوعي العراقي حتى لا يسيء لعلاقتهم بالبعث فتقطع عنهم دنانير العراق!
ومن الطريف او الغريب ان مؤتمر الحزب كان يوقف اعماله عند صلاة الظهر والعصر والمغرب لإتاحة الفرصة للرفاق لإداء صلاتهم والعودة للمؤتمر!
وعرفت فيما بعد ان الحزب الشيوعي السوداني كان يفتتح مؤتمراته الحزبية بتلاوة من القران الكريم!
وذات يوم زارتني هناء ادور مع مجموعة من الرفاق في شقتي وتعرفنا على بعضنا للمرة الاولى.
لقد جاءت للمغرب لتأسيس منظمة للحزب الشيوعي فيها، فقد كانت متفرغة للعمل الحزبي وعندما عرفت برغبتي بمغادرة المغرب لبيروت نصحتني بالذهاب الى تشيكوسلوفاكيا حيث سيكون السفر منها الى بيروت سهلا.. وهو ما حصل رغم ان براغ كانت اجمل من متحف.
وكانت رحلة بحث وضياع لشاب عقائدي تضغط عليه عقيدته (كما تفعل كل العقائد بحامليها) كي "يكفّر" عن سعادته بالحياة بالذهاب الى اسوا واصعب الاماكن.
العقائد السياسية عموما متجهمة ولا تحب الحياة او الفرح، بل ربما اعتبرتهما خطيئة ينبغي التكفير عنها!