العراق لم يعد ملزما بإستلام إيرادات النفط في الاحتياطي الفدرالي الأمريكي
7-كانون الثاني-2023
د. احمد ابريهي علي
لا بد من التمييز بين إستلام إيرادات النفط في حساب والتصرف بها فيما بعد، وأبين في هذه المقالة ان العراق لم يكن مرغما على إبقاء امواله في بنك مركزي بعينه. ومنذ الآن صار بإمكانه إستلام إيرادات النفط في البنوك التي يختارها، ولا يقتصر على الإحتياطي الفدرالي.
إتخذ مجلس الأمن قرارا برقم 687 تحت الفصل السابع لميثاق اللأمم المتحدة عام 1991، يُلزم العراق بدفع تعويضات للكويت بلغت 52.4 مليار دولار، تؤخذ من مجموع إيرادات النفط بنسب عينتها قرارات مجلس الأمن. وكان يراد تجميع إيرادات النفط في حساب لإقتطاع تلك التعويضات التي أتم العراق تسديدها مطلع عام 2022.
ومعلوم ان مجلس الأمن إستحدث الصندوق العراقي للتنمية DFI في القرار 1483 عام 2003 واوجب، ضمن تلك الترتيبات المستحدثة، إستلام إيرادات النفط في حساب وحيد لدى الاحتياطي الفدرالي في نيويورك، مختصر تسميته OPRA. وظيفته اقتطاع حصة من إيرادات النفط بنسبة محددة لوضعها في الصندوق الذي تشرف عليه لجنة التعويضات، وتحويل الباقي إلى حساب لوزارة المالية يديره البنك المركزي ومنه إلى حسابات أخرى يفتحها العراق ويتصرف بأرصدتها.
وفي 15 كانون الأول عام 2010 إتخذ مجلس الأمن بجلسته 6450 قراره رقم 1956 القاضي بإنهاء نظام الصندوق العراقي للتنمية، DFI، في 30 حزيران 2011. وألغت نصوص القرار آنفا تقييد العراق بإستلام إيرادات النفط في حساب وحيد لدى الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، نيويورك. لكن القرار، 1956، والذي نص صراحة بأن العراق لم يعد مُقيّدا في التصرف بإيراداته النفطية، أكّد، أيضا، على إستمرار العراق بدفع النسبة المقررة للتعويضات من كل المورد النفطي، والذي يحتم بالنتيجة استمرار استلام إيرادات النفط بالكيفية السابقة او على غرارها. ولذلك بقي حساب إستلام إيرادات النفط في الإحتياطي الفدرالي، نيويورك، لهذه العلة وليس لموجبات أخرى.
وإتخذ مجلس الأمن في الجلسة 8972 يوم 22 شباط 2022 قراره رقم 2621 بتصفية حساب التعويضات وإغلاقه، وإعادة المتبقي للعراق وحل لجنة التعويضات نهاية عام 2022 والتي كان آخر إجتماع لها في التاسع من كانون الأول، ونفّذ القرار. ونهاية عام 2022، كما تقدم، أُغلِق ملف التعويضات وتحرر المورد النفطي من هذا القيد. وبهذا لم يعد من الضروري إستلام إيرادات النفط في حساب وحيد لا في الإحتياطي الفدرالي ولا أي مكان آخر.
نظام الصندوق العراقي للتنمية DFI، وهي التسمية للحسابات المفتوحة في الاحتياطي الفدرالي، تضمَّن تعيين اللجنة الدولية للمشورة والمراقبة مختصر تسميتها IAMB والتي إنتهى عملها بالقرار 1956 الذي أصبح ساريا منذ 30 حزيران 2011. واللجنة طيلة مدة تكليفها لم تمنع العراق، عمليا، من التصرف الحر بموارده، ولم تتدخل، واكتفت بتعيين شركة حسابات للتدقيق وإرسال التقرير إلى حكومة العراق ومجلس الأمن. وإنتفع العراق، آنذاك، من السلطة الأدبية لمجلس الأمن وسلسلسة القرارات التنفيذية للرئيس الأمريكي لحماية أمواله قبل الانتهاء من تسوية ملفات المديونية الرئيسية، وخاصة مع القطاع الخاص، الذي قد يتمكن من إصدار حكم قضائي بحجز اموال الدولة المدينة لإستيفاء مستحقاته، بينما لا يسمح العرف للحكومات الدائنة فعل الشئ نفسه تجاه الدولة المدينة.
وحتى قبل إنهاء الصندوق العراقي للتنمية تصرف العراق بإيرادات النفط بصفته سيدا على أمواله ولم يعترض مجلس الأمن. أما الولايات المتحدة فليست لها ولاية على أموال العراق، ولم تكن للإحتياطي الفدرالي مسؤولية من مجلس الأمن على الصندوق العراقي للتنمية. الإحتياطي الفدرالي الأمريكي بنك مراسل للبنك المركزي العراقي يحرك الحسابات بأوامر Instructions من الأخير. مع ذلك هذا لا يعني ان الولايات المتحدة تشجع على نقل الأرصدة من مؤسساتها المالية إلى الخارج، ومن المتوقع الاّ تُذكِّر البنوك المركزية للدول الأخرى بأهمية التنويع في الإحتياطيات.
وقد يسمع المسؤول العراقي من الدوائر الأمريكية أن نقل إحتياطيات البنك المركزي خارج الولايات المتحدة لا ينسجم مع " الصداقة التي بيننا وتحالفنا في محاربة الإرهاب وإطار التعاون الإستراتيجي...". وقد يوحي هذا أو ذاك، من المتبرعين بالنصيحة على غير دراية، إلى صاحب القرار بأن إبقاء الأرصدة هناك يساعده سياسيا في مواجهة منافسيه. أو كما يقول أحدهم " خَلَصْ العراق حصة أمريكا"، أو "قال خبراء الصندوق أن صادراتكم بالدولار فما حاجتكم للعملات الأخرى".
إعتادت الدول على تنويع الإحتياطيات، وأموال القطاع العام في الخارج عموما، وذلك للوقاية من المخاطر السياسية، في المقام الأول، وبعده لتقليل أضرار تغيرات أسعار الصرف والفوائد، وتسهيل تمويل التجارة الخارجية والمدفوعات الدولية الأخرى، والانتفاع من فرص الاستثمار في أسواق المال. ونريد التأكيد على المخاطر السياسية لأن عالم الدول مليء بالنزاعات والمفاجآت، فقد يتغير النظام السياسي، أو المجموعة الحاكمة، فتُصنَّف الحكومة الجديدة بأنها معادية أو مارقة وتُحتجَز أموالها أو تفرض على حركتها ضوابط مشددة. والولايات المتحدة لا تكتفي بمقاطعة الدولة الخصم ماليا وتجاريا إنما تشمل الجهات التي تتعامل معها تلك الدولة لتُحكِم عليها الحصار، ومشكلة العراق الأخيرة في سوق الصرف جاءت من هذه الزاوية. الولايات المتحدة تُعاقب الشركات والمصارف التي تُقيم علاقات تجارية ومالية مع إيران ومع روسيا بعد حرب اوكرانيا، ودول أخرى معروفة... وهكذا.
العراق دولة مستقلة تامة السيادة حرة التصرف بمواردهاـ وأقتطِف من بيان رئيس مجلس الأمن في 15 كانون الأول عام 2010 في الجلسة التي اتخذ بها القرارات 1956، 1957، و 1958 التي أنهت الصندوق العراقي للتنمية، وأمَرَت بتصفية برنامج النفط مقابل الغذاء، وأن العراق أنجز إلتزاماته بنزع الأسلحة وما إليها:
“The Security Council reaffirms its commitment to the independence, sovereignty, unity and territorial integrity of Iraq, and emphasizes the importance of the stability and security of Iraq for its people, the region, and the international community".
فلماذا يتغافل البعض عن حق العراق بمبدأ تكافؤ السيادة مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، وإستقلاله في قراره بموارده وإدارتها. الواقعية السياسية لا تعني تعبئة الشارع لإضعاف الموقف التفاوضي للعراق، وتضليل الناس بأن الولايات المتحدة تكافح لمنع تهريب الأموال المسروقة من العراق !!؟. مصلحة العراق في عدم التمييز بين الدول في العلاقات التجارية والمالية، والعراقيون أعرف الناس بأن الحصار حرب، ولا بد أن يتجنب العراق أية مقدمات لإعادة التاريخ القريب بشكل آو بآخر.
من الأوهام أن الولايات المتحدة لا تسمح للعراق إيداع أمواله في بنوك مركزية لدول أخرى وعملات غير الدولار. ونبين ان العراق حتى في سنوات ولاية الصندوق العراقي للتنمية كان يستطيع تحريك أرصدته والإيداع والإستثمار في دول أخرى وقد فعل. ولتأكيد هذا أعتمد فقط على البيانات المنشورة في موقع البنك المركزي العراقي دون إضافة معلومات من مصادر شخصية. إحتياطيات البنوك المركزية مبينة في ميزانياتها العمومية، وثمة بنوك مركزية لا تُفصِح عن مكونات إحتياطياتها الدولية، ذهب وعملات وأدوات إستثمار ودول...، لكن البنك المركزي العراقي يعرض الكثير من هذه المعلومات في ميزانيته العمومية. وأرجو من القارئ الكريم زيارة موقع البنك المركزي ويطلب البيانات المالية، وستظهر التقارير المدققة من شركات محاسبية دولية للسنوات 2016 وإلى 2021؛ ثم يذهب إلى البيانات المالية لسنوات سابقة فيجدها تغطي المدة بين عامي 2004 و2015.
ولنقرأ سوية، من وهناك، لنفهم هل فعلا أن العراق لم يكن بوسعه نقل امواله إلى دول أخرى. لنبدأ بالقوائم المالية لعام 2008، يوم كان الصندوق العراقي للتنمية، وكذلك القوات متعددة الجنسيات... والكثير من القرارات تحت الفصل السابع. في الصفحة 14 فقرة نقد وأرصدة لدى البنوك المركزية: حساب جاري لدى بنك الإمارات العربية المتحدة المركزي حوالي 6.3 ترليون دينار، حساب جاري لدى بنك فرنسا مبلغ قليل، حساب ودائع لدى بنك فرنسا حوالي 4.9 ترليون دينار.
في القوائم المالية لعام 2009 لنفس العنوان والصفحة ظهر البنك المركزي البريطاني، بنك إنكلترا، وبنك إيطاليا إضافة الى الإمارات وفرنسا؛ المبالغ تتغير وأحيانا، بكثير. وفي القوائم المالية لعام 2011 فقرة نقد وأرصدة لدى البنوك المركزية صفحة 25 ظهرت هولندا إضافة إلى إيطاليا وفرنسا وبريطانيا؛ وفي الصفحة 26 سندات وحوالات لفرنسا وهولندا وإيطاليا. في السنوات اللاحقة أضيفت العملة الأسترالية والصينية والسويسرية بودائع لدى البنوك المركزية لتلك الدول، وودائع في البنك الإسلامي للتنمية.
في جميع السنوات كان الذهب وتزايد بمشتريات كبيرة خلال السنوات الأخيرة، والذهب احتياطيات عالية السيولة، تُحوّل إلى جميع العملات.
لكن حجم المبالغ من العملات غير الدولار والودائع خارج الاحتياطي الفدرالي الأمريكي انخفض نسبيا وبالمطلق كثيرا عن الذروة التي بلغها بعد حركة التنويع، وهو قرار عراقي نؤجل التعليق عليه.
الإحتياطيات تنحصر إدارتها ضمن نطاق الإستثمار المالي وبصفة عامة بين الودائع وأدوات الدين الحكومي بآماد مختلفة. صحيح أن العائد على الأسهم مرتفع للأمد البعيد، لكن مخاطرها عالية أيضا ولذلك تتحاشاها إدارة الإحتياطيات وهذه قاعدة عامة. لأن السيولة مهمة ويتعرض حائز الأسهم إلى خسائر فادحة عند الإضطرار إلى تسييلها خلال مدة حضيض دورة الأسعار والتي قد تمتد طويلا. أما الإستثمار في العقار فهو مستبعد أصلا من قائمة أدوات الإستثمار للإحتياطيات.
يستغرب بعض المهتمين، من غير ذوي الإطلاع على الضوابط المتعارف عليها لإدارة الإحتياطيات، لماذا يستثمر العراق هذه المبالغ الطائلة بأوراق الدين الحكومي الأمريكي، في حين لا تتفوق أدوات الدين للدول الأخرى عليها من جهة العائد، كما أن الجدارة الإئتمانية للحكومة الأمريكية لا شك فيها. لكن المسألة تتعلق بالتنويع دون المفاضلة بين الولايات المتحدة ودول أخرى. الدولار هو العملة الأولى في التجارة الدولية وادوات الإستثمار، والولايات المتحدة هي المركز المالي للعالم، بيد ان تحاشي المخاطر يتطلب إضافة عملات إحتياطية دولية إلى جانب الدولار.
من الآن تستطيع الحكومة إستلام إيرادات النفط في بنوك مركزية في أوربا وآسيا، وليست مضطرة للإقتصار على الإحتياطي الفدرالي الأمريكي في نيويورك. وبوسع البنك المركزي أيضا إدارة حسابات لإحتياطياته هناك، وإجراء تحويلات عليها. وإذا أبقت الحكومة على إستلام موارد النفط في مكان وحيد فهو قرارها وهي التي تتحمل مسؤوليته. وبالإمكان بيع وتحويل عملات أخرى من غير الدولار وإلى جانبه وهذا شائع في دول العالم، ومنها مجاوِرة للعراق، وتثبّت عملتها تجاه الدولار، وتربطها مع الولايات المتحدة أفضل العلاقات.
إعادة تنظيم المصارف الخاصة ضروري ولو بقوة القانون كي تنفتح على العالم الواسع وتُقيم علاقات مع مصارف مراسلة مرموقة. وياحبذا لو تبنت الحكومة برنامجا لتطوير مهارات التجار في العلاقات الدولية ليتمكنوا من التعامل مع المناشئ الأصلية والبعيدة بكفاءة أعلى، ويكون للعراق حضورا فعال يتناسب مع حجمه الإقتصادي والتجاري، دون الإعتماد على وسطاء في أسواق الدول القريبة.