العصر النووي الجديد
23-تشرين الأول-2022
ريتشارد هاس*
كانت الأسلحة النووية من مظاهر العلاقات الدولية الغالبة منذ أغسطس/آب من عام 1945، عندما أسقطت الولايات المتحدة اثنتين من أسلحتها النووية على اليابان للتعجيل بنهاية الحرب العالمية الثانية. لم يُـسـتَـخـدَم أي من هذه الأسلحة منذ ذلك الحين، وبوسعنا أن نقول إنها ساعدت في الإبقاء على الحرب الباردة باردة حقا من خلال فرض درجة من الحذر على جانبي المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. علاوة على ذلك، نجحت مفاوضات الحد من التسلح في تقليص حجم الترسانة النووية في البلدين وإيقاف أو إبطاء الانتشار النووي. اليوم، تمتلك سبع دول أخرى فقط (المملكة المتحدة، وفرنسا، والصين، وإسرائيل، والهند، وباكستان، وكوريا الشمالية) أسلحة نووية.
السؤال الآن هو ما إذا كنا على أعتاب حقبة جديدة من الترسانات النووية المتزايدة الحجم، ودور أكثر بروزا لها في المجال الجيوسياسي، وجهود حثيثة من جانب مزيد من الدول للحصول عليها. يضيف إلى هذه المخاطر الشعور بأن الحظر النووي المفروض ضد حيازة أو استخدام الأسلحة النووية بدأ يتلاشى، بفعل مرور الوقت وظهور جيل جديد من الأسلحة النووية التكتيكية المزعومة التي تنطوي ضمنا على نتائج أقل كارثية وبالتالي قد تبدو أكثر قابلية للاستخدام.
الواقع أن الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا جعلت وصول هذه الحقبة الجديدة أشد ترجيحا على أكثر من نحو. بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، تنازلت أوكرانيا عن الأسلحة النووية التي بقيت على أراضيها مقابل ضمانات أمنية. منذ ذلك الحين، غزتها روسيا مرتين، وهي النتيجة التي قد تقنع آخرين بأن التخلي عن الأسلحة النووية يهدد أمن بلدانهم.
ثم في أعقاب الغزو الروسي الثاني في وقت سابق من هذا العام، استبعدت الولايات المتحدة التدخل العسكري المباشر لصالح أوكرانيا بسبب تخوفها من أن يتسبب إرسال قوات أو فرض منطقة حظر طيران في إشعال شرارة حرب عالمية ثالثة نووية. وقد ترى الصين وغيرها في هذا دليلا على أن امتلاك ترسانة نووية كبيرة كفيل بردع الولايات المتحدة أو على الأقل إكراهها على التصرف بقدر أعظم من ضبط النفس. مؤخرا، وعلى خلفية نكسات كبرى في ساحة المعركة، هَـدَّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا أو بالقرب منها في محاولة لترهيب الأوكرانيين وإجبار الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة على إعادة النظر في دعمها لأوكرانيا.
كما ساهمت تطورات في أماكن أخرى في إعادة النظر في قيمة الأسلحة النووية. فقد أطيح بأنظمة وقادة في العراق وليبيا بعد تخليهم عن برامج لإنتاج الأسلحة النووية، وهو ما قد يدفع آخرين إلى التفكير في مزايا الاحتفاظ بالقدرات النووية أو تطويرها. من جانبها، لا تزال كوريا الشمالية تنعم بالأمان مع استمرارها في توسيع ترسانتها النووية. كما تَـعَـلَّـم العالم على نحو مماثل التعايش مع الترسانات النووية الإسرائيلية، والهندية، والباكستانية.
مكمن الخطر هنا هو أن تزايد عدد الأسلحة النووية في عدد أكبر من الأيدي يؤدي إلى تضخيم احتمالات استخدام واحد أو أكثر من هذه الأسلحة المدمرة بدرجة لا يمكن تصورها. وليس من الجائز أن نفترض أن الـغَـلَـبة ستكون للردع والوصاية المسؤولة. ذلك أن امتلاك الأسلحة النووية ينطوي أيضا على إمكانية توفير ما يشبه الدرع التي قد تجعل العدوان غير النووي أكثر شيوعا. حتى مجرد الاعتقاد بأن أي دولة تتحرك نحو تطوير أسلحة نووية قد يشعل شرارة عمل عسكري من قِـبل الجيران الذين يساورهم القلق، مما قد يؤدي إلى نشوب صراع أكبر.
نظرا لهذه المخاطر، تتمثل المهمة الأكثر إلحاحا في ضمان عدم مكافأة قعقعة السيوف النووية من جانب بوتن، خشية أن يشكل هذا سابقة خطيرة. وهذا يتطلب الحفاظ على الدعم العسكري والاقتصادي الغربي لأوكرانيا، فضلا عن تذكير روسيا على نحو منتظم من قِـبَـل الولايات المتحدة وحلفائها بأن العواقب التي سيخلفها أي استخدام نووي، سواء على القوات العسكرية الروسية في أوكرانيا أو كل من يشارك في اتخاذ مثل هذا القرار، سوف تفوق كثيرا أية فوائد من المتصور أنها قد تترتب عليه.
في الوقت ذاته، وبكل تأكيد قبل أوائل عام 2026، عندما ينتهي العمل بمعاهدة ستارت الجديدة التي تحد من ترسانات القوتين النوويتين الأعظم، ينبغي للولايات المتحدة أن تنقل إلى روسيا استعدادها لمناقشة المرحلة التالية من الحد من الأسلحة النووية. ويجب أن يكون عدد وأنواع أنظمة الأسلحة التي يجب تحديد حجمها على الأجندة، كما يجب إشراك الصين في الأمر.
كما يجب على الولايات المتحدة، جنبا إلى جنب مع شركائها في المنطقة، أن تتخذ الخطوات اللازمة ــ الدبلوماسية أو العسكرية إذا لزم الأمر ــ لضمان عدم تمكين إيران من تطوير أسلحة نووية أو الاقتراب من ذلك إلى الحد يجعلها قادرة على تحقيق اختراق نووي دون تحذير كاف لتمكين آخرين من منعها. الفشل في هذا من شأنه أن يدفع واحدة أو أكثر من الدول المجاورة لإيران إلى اتخاذ القرار بأنها في احتياج إلى أسلحة نووية تحت تصرفها. مثل هذا السيناريو من شأنه أن يدفع الشرق الأوسط، الذي ظل لثلاثة عقود من الزمن المنطقة الأقل استقرارا في العالم، في اتجاه أشد خطورة.
إن إحياء الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع القوى العالمية في عام 2015 (والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في عام 2018) من شأنه أن يساعد ولكن بشكل مؤقت فقط، لأن الاتفاق يتضمن العديد من الفقرات التي ينتهي العمل بها في تاريخ محدد. قد يبدو أن هذا ثمن باهظ للغاية، لأنه يسمح لإيران بالخروج من تحت وطأة عقوبات كبرى، مما يمكن النظام من اتباع سياسة خارجية أكثر عدوانية بعد إمداده بشريان حياة في وقت حيث تتصاعد المعارضة المحلية له.
لا يخلو الأمر أيضا من مجموعة أخرى من المخاوف في آسيا. لم تحقق محاولات فصل كوريا الشمالية عن أسلحتها النووية أي تقدم. ويجب أن يظل الهدف نزع السلاح النووي بشكل كامل، ولكن في ذات الوقت، يتعين على الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، واليابان، النظر في اقتراح ما للحد من التسلح كفيل بالحد من حجم ترسانة كوريا الشمالية النووية وأنظمتها الصاروخية في مقابل تخفيف العقوبات.
ينبغي للولايات المتحدة أيضا أن تحرص على صيانة تحالفها الوثيق مع كوريا الجنوبية واليابان في مواجهة ليس فقط كوريا الشمالية، بل وأيضا الصين. والفشل في تحقيق هذه الغاية من شأنه أن يدفع الدولتين في الأرجح إلى إعادة النظر في أي احتمال لتخليهما عن الأسلحة النووية.
لفترة طويلة من الزمن، عمل العديد من الباحثين وصناع السياسات تحت وهم مفاده أن المشكلة النووية أصبحت من بقايا الحرب الباردة. الحق أن العالم يزداد اقترابا من عصر قد تكون الأسلحة النووية السمة المميزة له وربما بشكل أكثر حدة. لقد بات تغيير المسار ضرورة حتمية، والوقت ينـفَـد.
* ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، مؤلف كتاب عالم في الفوضى: السياسة الخارجية الأمريكية وأزمة النظام القديم، وكتاب العالم: مقدمة موجزة.
ينشر هذا المقال بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت