بغداد - العالم
يعتبر الفنان طالب مكي واحدًا من أبرز الأسماء في تاريخ الفن التشكيلي العراقي والعربي، خصوصًا في مجال فنون الأطفال. على مدار أكثر من خمسة عقود، ارتبط اسمه بذاكرة أجيال من الأطفال العراقيين الذين نشأوا على رسوماته وأعماله التي أضافت بعدًا ثقافيًا وفنيًا عميقًا لوجدانهم. وكان لطالب مكي تأثير كبير في مجال الفنون التشكيلية في العراق والعالم العربي، لاسيما في مجال الرسم للأطفال وأشرطة الكومكس، التي جعلت منه أيقونة لا يمكن تجاوزها.
ولد طالب مكي في مدينة الشطرة جنوبي العراق، وبدأ في طفولته باكتشاف موهبته الفنية على جدران المنازل، حيث كان يعبّر عن نفسه من خلال الرسم على الجدران مستخدمًا الطباشير. هذه البدايات البسيطة أسهمت في تشكيل فنه الذي سيصبح فيما بعد جزءًا من الذاكرة الجمعية للطفولة العراقية. دخل طالب معهد الفنون الجميلة في عام 1953، ليبدأ مسيرته الأكاديمية تحت إشراف كبار الفنانين العراقيين، مثل فائق حسن وجواد سليم، الذي كان له الفضل في اكتشاف موهبته في النحت.
في عام 1969، بدأ طالب مكي مسيرته مع مجلة "مجلتي" التي كانت تُعنى بتطوير الثقافة الفنية للأطفال في العراق، حيث كان أحد مؤسسي هذا المشروع الثقافي الهام. تولى مكي قسم الرسم في المجلة، وبدأ بالإشراف على أعدادها، محقّقًا نجاحًا ملحوظًا في تقديم رسوماته التي أضافت نكهة خاصة للمجلة، ليصبح واحدًا من أبرز رسامي الأطفال في الوطن العربي.
تُعد أشرطة "الكومكس" التي رسمها طالب مكي من أبرز إنجازاته الفنية، حيث استطاع أن يدمج بين الفن التشكيلي التقليدي وفن السرد القصصي بطريقة مبتكرة. يعتبر مكي من الرواد الذين أسسوا لمدرسة عراقية في هذا النوع من الفن، إذ تميزت رسومه بأسلوب فني فريد يتجاوز مجرد الأشكال التقليدية، ليعكس إخراجًا سينمائيًا متقنًا لكل لقطة. كان كل رسم من رسوماته عبارة عن لوحة فنية حية، بألوان متدرجة وخطوط دقيقة جعلتها تشعر وكأنها مشهد حي يتنقل بين الزوايا بمهارة.
الجدير بالذكر أن ألوانه الترابية التي يستخدمها في رسوماته كانت تحمل في طياتها روح الأرض العراقية، وكأنها تشبع ألوانه برائحة الأرض والحقول، ما جعل رسومه تحمل طابعًا محليًا مميزًا يعكس البيئة العراقية بكل تفاصيلها.
لم يقتصر إبداع طالب مكي على فنون الأطفال فقط، بل كان لديه قدرة فريدة على نقل التاريخ عبر رسوماته. فكان يملك ذاكرة بصرية حادة مكنته من إعادة إحياء الحضارات القديمة في رسوماته بطريقة تكاد تكون أشبه بالتصوير الفوتوغرافي. كانت رسومه تأخذنا في رحلة عبر العصور التاريخية المختلفة، مما جعله واحدًا من أكثر الرسامين دقة في نقل تفاصيل الأزمنة البعيدة من خلال تخيّله الفني.
لقد رسم مكي العديد من الكتب والمجلات للأطفال، مبرزًا قصصًا تاريخية ودينية، وكانت لوحاته مرجعية للأجيال المقبلة لفهم التاريخ من خلال فنون الرسم التي تثير الخيال وتنميه.
على مدار خمسين عامًا، شارك طالب مكي في أكثر من مئة معرض محلي وعالمي، وتلقى العديد من الجوائز والشهادات التقديرية، وخلّف وراءه إرثًا فنيًا شغف به العديد من الرسامين الذين تتلمذوا على يديه. درّب مكي أجيالًا من رسامي الأطفال، وفتح لهم آفاقًا واسعة للإبداع والفن، وحافظ على المستوى الفني الرفيع الذي كان يسعى إليه دائمًا، محققًا تميزًا واضحًا في مجاله.
أعماله، مثل "سيناريو الوحش"، "آلة الزمن"، "رجال من المريخ"، و"ابن النجوم"، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الوجدان العراقي، تملأ ذاكرة كل من نشأ في تلك الحقبة الذهبية من الثقافة العراقية.
كان لطالب مكي شخصية فنية صارمة، لكنه كان يتمتع برؤية فنية واضحة، لا يتنازل عن تقديم الأفضل. ورغم الصعوبات الصحية التي مرّ بها، خصوصًا بعد إصابته بانحراف شبكية العين في أواخر الثمانينات، فقد بقي وفياً لفنه، حتى لو ظهرت بعض التغيرات في أسلوبه الفني في أعماله المتأخرة. لكنّ تلك الأعمال كانت لا تزال تحمل بريقًا خاصًا، وتفردًا يعكس تمسكه بجوهر الإبداع.
رحل طالب مكي، إلا أن إرثه الفني ما زال حيًا في ذاكرة الطفولة العراقية، وفي قلوب الأجيال التي تربّت على رسوماته. لقد ترك لنا عالمًا فنيًا ناطقًا بالحياة والجمال، مليئًا بالتفاصيل التي تُعبر عن مشاعر الإنسان العراقي وطفولته، وتفاصيل البيئة المحلية التي عاش فيها.
كما قال عنه الفنان ضياء الحجار: "لو كان طالب مكي يعيش في أميركا أو أوروبا لكان قد حصل على مكانة عالمية تليق بمستواه الفني الكبير." هذا الكلام يعكس حقيقة قيمة فنه، الذي سيظل حيًا في قلوب محبيه وفي ذاكرة الثقافة العراقية.
الفنان طالب مكي ليس مجرد رسام أطفال، بل هو مبدع وذاكرة حية للأجيال التي نشأت في العراق، وعالم فني لن ينسى. كما قال زميله الفنان ماجد وعد الله: "سيأتي الوقت الذي يُقال فيه، فلان جاور طالب مكي أو حتى سلّم عليه." بالفعل، لقد جعل طالب مكي من الفن جزءًا من حياتنا اليومية، وأصبح جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الفن العراقي والعربي.