ميثاق مناحي العيسى
تتنوع الفواعل المؤثرة في العزوف الانتخابي لدى الناخب العراقي، فبعضها يرادف اسباب العزوف، مثل مستوى التعليم والفقر والحرمان الاجتماعي، وبعضها مستقل عنها، له علاقة مباشرة في التأثير على السلوك السياسي للناخب العراقي.
وتعد التنشئة السياسية من أبرز الفواعل التي تؤثر على سلوك الناخب (سلبًا وإيجابًا) من خلال مؤسساتها التربوية الرسمية ذات العلاقة المباشرة بسلوك وتنشئة الفرد. ويتفق الكثير من علماء السياسة على أهمية مفهوم التنشئة السياسية في تفسير السلوك السياسي والانتخابي للفرد، وتنبع هذه الأهمية من فكرة أن جميع المجتمعات الإنسانية تعتمد في تماسكها وتطورها على ما يتوفر لديها من فهم مشترك للقيم والعادات والتقاليد التي تسود المجتمع، وهنا تتدخل عملية التنشئة السياسية في تكوين هذه الآراء والقيم والاتجاهات التي تعد استعدادات كامنة لإنتاج استجابات سلوكية محددة.
وتدور فكرة التنشئة السياسية على أن الفرد يولد في مجتمع سابق على وجوده، له قيمة وأفكار ومؤسسات، ويحاول أن ينشئ هذا الفرد على هذه القيم والافكار، وهي عملية لا تتم من فراغ، بل تتكفل بها عدة مؤسسات اجتماعية وسياسية حاملة لقيم المجتمع التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وتختلف طبيعة التنشئة السياسية من وقت لأخر تبعًا لاختلاف البيئة والظروف الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع، فعملية التنشئة مرتبطة إلى حدٍ كبير بطبيعة الكيان السياسي وما يسوده من إيديولوجية وما يتبناه النظام القائم من سياسات وأساليب في تنظيم الناس وتوجيههم نحو هدف مشترك.
وتأتي الأسرة في مقدمة تلك المؤسسات التربوية، بإعتبارها المؤسسة الأولى التي تتكفل بتنشئة المواطن اجتماعيًا، فمن خلال العلاقات التي تنشأ داخل الأسرة يكتسب المواطن مجموعة من السلوكيات والقيم والاتجاهات التي تؤثر على سلوكه السياسي والاجتماعي، وقد أكدت معظم الكتابات التي تناولت التنشئة على أن الأسرة هي أهم أدوات التنشئة؛ نظرًا لما لها من تأثير حلزوني يمتد لسيطرة كل الأدوات الأخرى مثل المؤسسة والسلطة ووسائل الإعلام وغيرها، وتعد الأسرة القاسم المشترك، التي تشترك بيها كل المجتمعات البشرية، بغض النظر عن نوع الثقافة وطبيعة المجتمعات وعاداتها وتقاليدها.
وتأتي المدرسة في المرتبة الثانية، أن لم تكون بنفس مرتبة الأسرة بطبيعة تأثيرها السياسي والاجتماعي، إذ تمثل المؤسسة الأولى التي تستخدمها النظم السياسية والحكومات في بث وترويج قيم معينة تتفق وأهدافها من خلال المقررات الدراسية، وتتبع أهميتها من خلال طول الفترة التي يقضيها الفرد في التعليم وطبيعة ارتباط النظام المدرسي بالدولة والنظام السياسي، لكنها تختلف من نظام سياسي وطبيعة إدارته وآخر، فدور المدرسة يختلف في النظام الدكتاتوري عنه في النظام الديمقراطي أو غيره من الأنظمة. فالمدرسة تعد اهم المؤسسات المسؤولة عن تنشئة المجتمع سياسيًا، وذات تأثير مباشر على سلوكه السياسي، إذ تقوم بعملية التنشئة بطريقتين: التثقيف السياسي وطبيعة النظام المدرسي، من خلال برامجه ومبادئه وأهدافه.
وتتضح العلاقة بين التنشئة السياسية والعزوف الانتخابي في نمط وأدوات التنشئة السياسية، فما زال النمط السلطوي يسيطر على عملية التنشئة، والواقع الذي يحيا به الطفل في الأسرة بإعتبارها أهم وأول أدوات التنشئة هو واقع سلطوي، فكلما كانت تهيئة المناخ الديمقراطي السليم للممارسة السياسية، كلما يدفع إلى نمط من التنشئة أكثر ديمقراطية. وإن عدم اهتمام المواطن بالتنشئة السياسية لإنشائه ومن ثم قلة الوعي والأدراك السياسي يؤدي لإعاقة عملية المشاركة السياسية، فضعف مستوى الثقافة السياسية، الناتج عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يؤدي الى انخفاض من درجة المشاركة السياسية.
كذلك تعد المؤسسات الرسمية أبرز الفواعل المؤثرة في العزوف الانتخابي، وتأتي في مقدمتها الحكومة، وهي أهم عنصر في الحياة السياسية وجهاز ضروري وركن أساسي من أركان الدولة، إذ أصبحت الحياة السياسية للأفراد تتوقف في جزء كبير منها على اعمال الحكومة بصورة كبيرة؛ لذا فإن نجاح الحكومة في أداء وظائفها بفاعلية وكفاءة، يعد بمثابة المحددات الاساسية في بناء الثقة بينها وبين المواطنين، وهو ما يساهم في زيادة نسبة المشاركة السياسية في الانتخابات.
ولعل تقييم الاداء الحكومي يعتمد على المقاربة السياسية – الاقتصادية، أي فيما تحققه الحكومة على المستوى الاقتصادي للدولة والمجتمع في التنمية الاقتصادية والسياسية وتطوير القطاعات الخدمية والاستثمارية والبنى التحتية، وطبيعة الاستقرار السياسي والأمني ومدى انعكاس أداءها على المجتمع ورفاهيته ومستواه المعاشي ودخله القومي.
وكذلك يعتمد على المقاربة المؤسساتية، التي تركز على طبيعة المؤسسات الحكومية ومدى قدرتها ومساهمتها وفاعليتها في التنمية السياسية والبشرية وقربها من المواطن، بعيدًا عن البيروقراطية والروتين الإداري؛ لهذا فإن نجاح الحكومة في هذه المقاربات، يساهم بشكل كبيرة في رأب حالة التصدع بين الحكومة والشعب؛ مما ينعكس إيجابًا على المشاركة السياسية، او العكس.
فضلًا عن ذلك، يعد البرلمان او السلطة التشريعية أحد أهم المؤسسات الرسمية الفاعلة في العزوف الانتخابي في العراق، فهي المؤسسة التي تمثل إرادة الناخب وخياراته السياسية، ويرتبط تفعيل الاداء البرلماني بالمكانة التي يحتلها البرلمان المنتخب، فالمؤسسة البرلمانية تحتل أعلى درجة في التنوع والاحتواء للمصالح المتعارضة وتتميز بالقدرة العالية على التكيف وهي المعبرة عن إرادة الناخبين ومشاركتهم في العمل السياسي، وأن إضعاف البرلمان أو تزوير إرادة الناخبين في العملية الانتخابية يهز ثقة المواطنين بالمؤسسة البرلمانية، فضلًا عن ضعف دوره الرقابي والتشريعي، وتحويله من مجلس تشريعي إلى مجلس أسير لرغبات الأحزاب السياسية وزعماء الكتل السياسية ومنبر للتعبير عن مصالحهم السياسية دون الاكتراث بالمصلحة الوطنية العامة.
كذلك تعد وسائل الإعلام من الفواعل المهمة في سلوك الناخب العراقي، إذ تلعب تلك الوسائل دور في تنشئة الفرد سياسيًا، ويختلف مدى نجاحه من مجتمع لآخر، وهذا حسب طبيعة ودور المستوى الثقافي للأفراد وللمجتمع، ومدى حرية وسائل الإعلام وتمتعها بالديمقراطية والعلم الصحفي واستقلاليتها؛ لأن العلاقة بين التطور لوسائل الاتصال الجماهيري والمعرفة السياسية علاقة وثيقة جدًا، من خلال تأثير هذه الوسائل في العملية السياسية والاجتماعية وتوجيهها، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإن معظم القنوات الإعلامية تبعث برسائل تشكيك وتحريض ضد مفوضية الانتخابات قبل أشهر من الانتخابات؛ تمهيدًا منها لكسب ود الجمهور وتعاطفه معها مع أن هذا التشكيك أخذ طابعه السلبي عند فكر الناخب وكرَّس مفهوم عدم جدوى المشاركة لديه؛ لكثرة ضخ مثل هذه الرسائل السلبية وجعلها صورة مكررة، وعلى الرغم من كل رسائل التوضيح التي أطلقتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وشرحها التفصيلي للناخب وتثقيفه، إلا أن الطابع السلبي بقي هو السائد عند الناخب؛ الأمر الذي أبقى مفوضية الانتخابات في دائرة الاتهام من قبل المواطن او الناخب العراقي، بأنها أداة شريكة في النتاج السياسي وما تفرزه الانتخابات من نتائج، على الرغم من أنَّ دورها، هو دور وسيط وناقل بين المواطن والحكومة. إلا أنَّ التسقيط الإعلامي واتهام الاحزاب السياسية لها، ولاسيما الخاسرة في الانتخابات، خلقت صورة سلبية عن المفوضية لدى المواطن العراقي.
أيضًا تعد الأحزاب السياسية أحد أهم المؤثرات في السلوك السياسي للناخب من عدمه، ويرى بعض المتخصصين من أن الحزب هو البناء السياسي الأكثر تأثيرًا في عملية التنشئة السياسية بالنظر إلى عملية التجميع التي يقوم بها، وكثرة الأفراد المنتمين إليها، وامكانية مشاركتهم المباشرة والواسعة بصورة دائمة ومنضبطة خدمة للفرد والمجتمع عمومًا. فمن السمات المشتركة التي تشترك بيها أغلب الأحزاب السياسية العراقية، هو غياب التناوب على السلطة وبقاء القيادات واستمرارها في هرم القيادة الحزبية، وافتقارها إلى العمل الحزبي الفعال، وعدم خضوعها للقوانين والتنظيمات الحزبية، وتوجه بنيتها نحو اتخاذها طابع الاحتكار، وتفتقر للمرونة والتغيير والمراجعة في خطاباتها السياسية والاجتماعية، فضلًا عن عدم مشروعية مكاسبها المالية والاقتصادية، وفقدانها للرؤية السياسية والاقتصادية في تحليلها للوضع العام للبلاد، وطبيعة العلاقة بين القاعدة الحزبية والقيادات، فضلاً عن التصدع الداخلي وغياب المشروع الوطني، والنظرية السياسية والفلسفة والاقتصادية الحاكمة لإدارة الدولة، فهي لا تمتلك برامج انتخابية حقيقية، تسعى إلى تطبيقها اذا ما وصلت إلى سدة الحكم؛ لهذا نرى أن جميع الأحزاب العراقية التي وصلت إلى السلطة بعد عام 2003، فشلت في تحقيق أي إصلاح سياسي أو اقتصادي؛ وهذا بدوره أدى إلى تصدع الثقة بها؛ مما خلق بينهما فجوة كبيرة، انعكست سلبًا على المشاركة السياسية والامتناع عن التصويت.
إنَّ العلاقة القائمة بين الأحزاب السياسية العراقية والمجتمع، علاقة محدودة ومبنية على أسس مصلحية انتخابية، أي بمعنى آخر هي علاقة زبائنية، قائمة على أساس المال وشراء الذمم، وليس على اساس الانتماء الحزبي والإيمان بأفكاره ومبادئه السياسية والايديولوجية، وهي في الاغلب تمثيل مجموعات ضيقة في المجتمع، وهي بمثابة امتداد للسلطة أكثر منه تمثيلًا ديمقراطيًا للمجتمع من خلال الممارسات القبلية والجهوية والزبائنية في الانتخابات.
فمن الانعكاسات التي تركها نمط التمثيل الحزبي الزبائني على مستوى البرلمان، فقدان الثقة بالسلطة التشريعية تمامًا من قبل المجتمع، وتحويل تلك السلطة إلى اقطاعات حزبية تحركها المصلحة الحزبية وأسيرة لإرادات زعماء الكتل السياسية، وليس لممثليها؛ مما أدى إلى فقدان ثقة المجتمع بها، وإمكانية التغيير عبر صناديق الاقتراع.