الفيلسوف الألماني هردِر دعا إلى الوحدة الكونيّة
28-تشرين الثاني-2022
أثّر الأديبُ والناقدُ الفنّي يوهان غوتفريد فون هردر (1744-1803) تأثيراً بالغاً في نتاج الكثير من الأدباء والكتّاب الذين انتسبوا خصوصاً إلى حركة الانتفاضة الألمانيّة الأدبيّة والسياسيّة التي قادها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر نوابغ الأدب الألمانيّ، من أمثال منظّر الفنّ الأديب الروائيّ الشاعر غوتِّه (1749-1832)، والكاتب المسرحيّ ياكوب لِنتس (1751-1792)، والكاتب المسرحيّ الشاعر فريدريش كلينغر (1752-1831). عُرفت هذه الحركة باسم "العاصفة والاندفاع" (Sturm und Drang)، وآثرت مناصرة النهضة الأدبيّة والقوميّة الألمانيّة، فأعلت من شأن الحرّيّة، ورفضت التقاليد والأعراف الاجتماعيّة التي تقهر الإنسان وتحرمه من استقلاله الوجدانيّ. فضلاً عن ذلك، عاينت في بعض أصناف الفنّ الأخلاقيّ المتسامي تشويهاً لواقع الإنسان المنخرط في معاناة الوجود اليوميّة. لم تتطوّر الحركة فتتحوّل إلى تيّار سياسيّ، بل اقتصر أثرُها على النهضة الأدبيّة. لذلك سمّاها غوتِّه نفسُه "الثورة الأدبيّة". ظهر أثرُ هردر أيضاً في نطاق فلسفة التاريخ وفلسفة القوميّة، بحيث انتشرت أفكارُه السياسيّة في ألمانيا وأرجاء شتّى من أُوروبّا، لا سيّما في البلاد السلاڤيّة.
نشأ هردر في أسرةٍ بروتستانتيّة متحدّرة من بروسيا الشرقيّة تنتسب في معظمها إلى المذهب التقويّ اللوتريّ الذي أسّسه فيليب ياكوب شبِنِر (1635-1705)، وكان يروم الإسهام في صحوة الإيمان المسيحيّ وتحفيز الممارسة الدِّينيّة التقويّة التي تناهض التنظير الفكريّ المجرّد وتناصر الالتزام الأخلاقيّ العمليّ المفيد. درس هردر الفلسفة واللاهوت في مدينة كونيغسبرغ حيث استمع العامَ 1762 إلى محاضرات كانط في الفيزياء والمِتافيزياء، وانتسب إلى الحلقة الدراسيّة التي كان يعقدها اللاهوتيّ الألمانيّ الشهير يوهان غيورغ هامان (1730-1788) الذي كان يناهض حركة التنوير العقلانيّة ويسعى إلى تدبّر العناصر اللاعقلانيّة المنبعثة من تدفّق الحياة في الوعي الإنسانيّ. حرّضه هذا المفكّر على استكشاف كنوز الأدب الإنجليزيّ، لا سيّما أعمال شكسبير (1564-1616)، والأدب السكوتلانديّ في أناشيد أوسيان التي جمعها وترجمها الشاعر السكوتلانديّ جيمس ماكفرسون (1736-1796). منذ ذلك الحين، أكبّ هردر على جمع القصائد الشعبيّة هذه، ونقلها إلى الألمانيّة، ونشرها في إصدارات متعاقبة.
ارتباط اللغة الشعريّة باللغة الأمّ
في العام 1764، عينّته الإدارة التربويّة معلِّماً في مدينة ريغا الساحليّة المرفئيّة الروسيّة. فاغتنم الفرصة وعكف على نشر كتابه "مقتطفات من الأدب الألمانيّ الحديث" (Fragmente über die neuere deutsche Litteratur). استلهاماً لفكر الأنوار الأُوروبّيّة، أخذ يدافع عن المضامين التحرّريّة التي كانت تنطوي عليها دوريّة "الرسائل الأدبيّة" (Literaturbriefe)، وقد أسهم في إنشاء موادّها الفلاسفة الألمان غوتهولد لسّينغ (1729-1781)، وموزس مِندلسون (1729-1786)، وتوماس أبت (1738-1766)، والناقد الأدبيّ الهجائيّ المؤرّخ فريدريش نيقولاي (1733-1811). غير أنّ هردر أصرّ على الإتيان بأفكار ثوريّة جديدة، فصاغ مشروعاً رياديّاً يقضي بكتابة تاريخٍ أدبيٍّ عملانيٍّ يتناول النتاج الأدبيّ في مختلف القرائن والأوضاع، مُبيّناً أثرَ الأحوال التاريخيّة والاجتماعيّة التي تؤثّر في الوعي الثقافيّ. فإذا به يستجلي مقام اللغة الخاصّ، ويعاين فيها أساساً من أسُس تطوّر الأدب.
ذلك بأنّ اللغة، في نظره، تعبّر عن عبقريّة كلّ شعب على حدة. فالشاعر ينبغي أن يُفصح عن وجدانه بلغته الأمّ، إذ إنّ اللغة الأصليّة هذه تستطيع وحدها أن تخاطب الإنسان العاديّ المنتسب إلى الشعب الذي يجسّد أنبلَ صورةٍ عن الإنسانيّة: "ما دمنا نصون لغتَنا الأمّ في لساننا، فإنّنا ننفذ إلى أعماقِ ما يميّز كلَّ لغة. فإذا بنا نعثر هنا على ثغرات، وهناك على فيضٍ؛ هنا على كنوزٍ، وهناك على قفر. فيتسنّى لنا أن نُغني عوزَ الواحدة بكنوز الأخرى. لذلك نسأل: ما العلاقة الدقيقة التي تربط اللغة بالذهنيّة؟ إنّ مَن يحيط بلغةٍ من اللغات ويقف على جلائلها ودقائقها إنّما يتعهّد بنظره حقلاً مليئاً بالأفكار؛ ومَن يتعلّم أن يعبّر عن نفسه بواسطة هذه اللغة على وجه التحديد إنّما يظفر لنفسه بكنزٍ من المفاهيم الواضحة. ومن ثمّ، فإنّ الكلمات الأُوَل التي نتمتمها هي مداميك الأسُس التي تقوم عليها معارفُنا، والمربّيات الحاضنات هنّ المعلّمات اللواتي يلقّنّنَ المنطق". ليس المطلوب أن نجعل اللغة الأمّ القيمة المطلقة في الوجود، بل أن نستثمر قدراتها في التعبير الأنسب عن وجدان الشعب. ومن ثمّ، فإنّ التاريخ الأدبيّ هذا ينطوي على غايات عملانيّة تهذيبيّة تتعلّق بتنشئة الوعي الشعبيّ وتنميته.
أصل اللغة
وعلاوةً على ذلك، حرص هردر على انتقاد الجماليّات الأدبيّة السائدة في عصره، لا سيّما تلك التي كانت تُملي على المبدعين ضرورةَ الاقتداء بنماذج السلف الصالح. ولكن سرعان ما أثار هذا الانتقاد ردودَ المحافظين الذين راحوا يضيّقون عليه في مدينة ريغا التي ما لبث أن غادرها في سفر طويل إلى بعض المدن الفرنسيّة والألمانيّة، ابتداءً بمدينة نانت، وتعريجاً على باريس حيث تعرّف إلى المرأة التي أصبحت زوجته ورُزق منها ثمانية أولاد، وانتهاءً بستراسبور التي تعرّف فيها إلى الشابّ غوتِّه الذي أصبح صديقه. في المدينة المزدوجة الثقافة هذه، أنشأ بحثه الشهير "مقالةٌ في أصل اللغة" (Abhandlung über den Ursprung der Sprache)، فنال عليه العامَ 1771 جائزة أكادِيميا برلين. ولكن حين استفسره علماء الأكادِيميا البرلينيّة عن استعدادات الشعوب البدائيّة المهمَلة ثقافيّاً المستندة إلى ملَكاتها الطبيعيّة العفويّة، وسألوه عن قدرة هذه الشعوب الذاتيّة على اختراع لغاتها الخاصّة، أجابهم منتقداً نظريّة الذين ينسبون إلى اللغة أصلاً مِتافيزيائيّاً لاهوتيّاً، من أمثال عالم اللغة الألمانيّ يوهان بِتر سُسميلش (1707-1767)، ونظريّة الذين يربطونها بالمحاكاة الطبيعيّة، من أمثال الفيلسوف الفرنسيّ كونديّاك (1714-1780). ذلك بأنّ هردر كان مقتنعاً بأنّ البحث عن أصل اللغة يزجّ بالعقل الإنسانيّ في لجّة الدوران المهلك، إذ إنّ مثل هذا البحث يفترض أصلاً وجودَ اللغة في صورة الأهليّة الطبيعيّة أو الكفاءة العفويّة التي يسمّيها التبصّر (Besonnenheit). يبدو أنّ الملَكة التدبّريّة هذه تحمل، في فكر هردر، بعض الدلالات الكانطيّة التي تشير إلى بنية لغويّة اقتضائيّة مجاوِزة فُطر عليها الذهن الإنسانيّ.
أقام هردر زهاء ستّ سنوات في مدينة بُكبورغ شمال غربي ألمانيا، ممارساً وظيفة القسّيس الراعي، ومصادقاً الأديب اللاهوتيّ السويسريّ يوهان كاسبر لاڤاتر (1741-1801) صاحب الاختصاص الشهير بمباحث الاستدلال على الطباع الإنسانيّة من خلال النظر في هيئة الجسد وتقاسيم الوجه. من جرّاء العلاقة الوجدانيّة هذه، طفق هردر يُفصح عن آرائه الدِّينيّة اللاهوتيّة، فأنشأ يذيع أنّ رواية الخلق المسيحيّة قصيدةٌ جميلةٌ أبدعتها المخيِّلة الشعبيّة، تلائم طوراً من أطوار النضج الإنسانيّ ولا يمكن نقلها إلى لغة التأصيل المفهوميّ النظريّ المجرّدة. فضلاً عن ذلك، أخذ يبيّن في كتاباته أنّ الله لا يوحي بكلامه في "الكتاب المقدّس" فحسب.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech