عامر بدر حسون
في الأربعينيات نشرت مجلة الاثنين والدنيا مقابلة مع أرملة قاسم أمين (1863-1908) الداعية الأشهر لتحرير المرأة. كانت مقابلة مثيرة في المعلومات التي قدمتها عن قاسم أمين، ومنها ان أرملة قاسم أمين، التي نشرت صورتها وهي سافرة، قالت انها كانت محجبة طيلة حياة زوجها، وان بناته كن محجبات أيضا، بل انه لم يسمح لهن بالذهاب إلى المدرسة، واكتفى بان جاءهن بمدرّسة إلى البيت!
وعندما أعدت نشر المقابلة قبل سنوات في مجلتي «مجلة الأيام» كان من المثير، ان المدافعين عن النقاب، هم أكثر من التفت إليها، واستخلصوا منها أشياء كثيرة عن ازدواجية المثقفين، والبون الكبير بين أفكارهم وحياتهم.
ويقيني ان هذا لن يثير استغراب القارئ اليوم، فهو اعتاد أن يسمع حديثا ويرى فعلا مخالفا له، سواء من السياسيين أو من المثقفين أو من الهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها. ولطالما لعب الخوف، إضافة للمطامع المادية، دورا كبيرا في خلق مسافة النفاق هذه.
وثمة أسباب في هذه الازدواجية تكمن في طبيعة ثقافتنا السائدة.
فهي ثقافة ذات طابع وعظي وعاطفي وتفتقر للواقعية. ومازالت أكثر الأفكار جاذبية في حياتنا، هي الأكثر رومانسية وتطرفا وروحانية، بغض النظر عن إمكانيات تطبيقها، الأمر الذي يضعها تحت طائلة المثل المصري القائل: "اسمع كلامك يعجبني، أشوف عمايلك استعجب"!
وحياة قاسم أمين وتطور أفكاره قد تكون اوضح مثال او دليل على عدم تجذر افكار الحداثة والحضارة في اعماقه وانما هي هبّة مثقفين مثل التي في ثقافتنا العراقية السائدة.
فهذه الثقافة كرست نفسها للحديث عن البطولات الخارقة لمن اشعل نيران القادسية في حاضرنا ومستقبلنا، ولطالما تباهت ببطولاته وقدرته على العصف بكل الاعداء.
لكنها غيرت اتجاهها فجأة واصبحت ثقافة تسول واستعطاف (في فترة الحصار خصوصا) وصارت الكتابة الافضل فيها هي التي تستدر دموع العالم على اطفالنا مستجدية لهم قلم رصاص او علبة دواء.
تحول قاسم امين كان كذلك بالضبط..
فهو كان في العام 1893 يدافع عن الحجاب بقوة، ويدافع عن تعدد الزوجات وفوائده، وكان يهاجم المرأة الغربية ومن تريد السير على خطاها من النساء الشرقيات.
وقد كتب هذا ردا على كتاب بعنوان «سر تخلف المصريين» ألفه فرنسي اسمه الدوق داركور، فكان رد أمين انفعاليا، حيث مدح كل ما تم نقده بصرف النظر عن صحته، ومنه تخلف المرأة وعبوديتها.
وقد أزعج هذا المدافعين عن حقوق المرأة في مصر ومن بينهم، ويا للمفارقة، الإمام محمد عبده، الذي كان يرى في اضطهاد المرأة إساءة للإسلام.
وبعد ست سنوات، لا اكثر اصدر قاسم امين كتابه الشهير "تحرير المرأة" والذي يقال ان الإمام محمد عبده ساعد في تأليفه، من ناحية توفير النصوص الدينية الداعمة لحقوق المرأة، والتي تدعو لتحريرها من الجهل والعبودية.
وفي العام 1900 أصدر قاسم أمين كتاب «المرأة الجديدة» الذي طالب فيه بالتحرير على الطراز الغربي.
وهي كما يرى القارئ تحولات سريعة وعنيفة في فكر قاسم أمين، ولعل سرعة التحولات النظرية عنده لم تسمح له في تطبيقها في حياته وبيته.
لكن الأكيد ان أفكار الرجل، يومذاك، مازالت، حتى اليوم، من الأفكار الأكثر نضجا في الدفاع عن المرأة وحقوقها.
وهي ربما صورة أخرى عن ثقافتنا، التي مثل مثقفينا، مثل سياسيينا، تعيش فوق فيما الناس تحت، وهي ترفع الصوت عاليا كلما ابتعدت عن الواقع.