المثقف والحزبيَّة
10-أيار-2023
ابراهيم العبادي
يصنف المثقفون عادة بأنهم نخبة المجتمع، وأنهم المولعون عادة بتوليد الأفكار ونقد الواقع، والبحث عن مسارات تجويده وتجديده، عبر تقديم البدائل وصناعة النماذج والنظر العميق الواسع إلى المستقبل الواعد.
المثقفون لا يولدون من دون إبداع وعطاء فكري ومنتج ثقافي، أنهم لا يحرزون مكانتهم الاجتماعية وتصنيفهم النوعي، إلا وفق مقاسات محددة تجمعهم مع نظرائهم في المجتمعات الاخرى، ولذلك أطبقت الدنيا على أفراد مكانة خاصة للمثقفين، وميزت بين مثقف تابع للسلطة، وآخر منحاز للمجتمع، وثالث بين بين، كل حسب بنائه النفسي ورسالته الاخلاقية ودوافعه الأيديولوجية، ظهر المثقفون في تاريخ الحضارات والدول بصيغ مختلفة، فمنهم الفلاسفة والفقهاء واللاهوتيون والادباء والمفكرون الاجتماعيون والنقاد، ادواتهم المعرفة الواسعة وهمهم الدائم الاشتغالات العقلية والنظر المنهجي والتفكير النظري، ولذلك لا تسعهم الغرف المغلقة ولا الفضاءات المحدودة ولا يطيقون القيود من اي نوع.
يوم يقرر المثقف الانخراط في حزب بكونه اداة للتغيير ووسيلة للتاطير ورافعة سياسية -أيديولوجية للافكار ولتحقيق الاهداف، فإنه يتنازل عن مساحة الحرية التي يملكها في مقابل التوفر على جماعة منظمة تتبنى الافكار وتبشر بها وتعمل على تكريسها في مشروع العمل والتنظيم.
حينما يشعر المثقف بخسارة الحرية وخسارة النفوذ الاجتماعي والسياسي داخل التنظيمات، ولا يعود مؤثرا ولا متمايزا عن غيره، فان سلاحه للثأر من عملية التدجين هذه، هو الانشقاق والتمرد والنقد والفضح، إلا أن يكون مثقف سلطة، اي سلطة، سلطة الحزب، أو سلطة الحكم، أو مثقف الصالونات وسلطتها المعرفية والاجتماعية، وهذا ما يجرده من كونه (مثقفا عضويا)، ليجد نفسه مثقفا تابعا غير متبوع واداة بلا مشروع، وسلطة تحرسها نرجسية الترفع على الطبقات الدنيا في السلم المعرفي والثقافي والاقتصادي.
اما المثقف النقدي الذي لا يرتضي لنفسه الخضوع لسلطة حزب بفكر محدود وعقليات تنظيمية اداتية واجرائية مع صرامة ايديولوجية، فإنه قطعا يفضل الاستقلالية على الحزبية الضيقة، ويختار الحرية على الانتماء، لكنه يخسر التبني الحزبي لافكاره والترويج المنظم لابداعاته، ويقف وحيدا مجردا من كل سلطة غير سلطة الافكار وغاياتها الاخلاقية، وهذه لا تتوفر لكل مثقف ولا يصنعها الفكر والادب والثقافة المجردة، بل ثمة عوامل اجتماعية وسياسية مكملة ومساعدة، فضلا عن ما تمثله شخصية المثقف نفسه من رأسمال اجتماعي يزيد وينقص، ويزداد عمقا واتساعا أو يتراجع مساحة وتأثيرا.
خلاصة الكلام، المثقفون درجات منهم صانع الافكار ومنتج النظريات ومبدع المشروعات، ومنهم الشارح وكاتب الهوامش والفاعل الاجتماعي، ومنهم مثقف الحزب المدافع عن مشروع حزبه، ولا يشذ المثقف المتدين عن هذه التقسيمات والتصنيفات، فالالتزام الديني اضافة نوعية للمثقف، وهي اختيار شخصي قبل أن تكون مشروعا حركيا أو سياسيا، واذا كان ثمة تصنيف للمثقفين بأنهم في الغالب محسوبون ومصنفون على اليسار الثوري أو العقلانية البنيوية أو التفكيكية التحررية الاضافة الجديدة، التي شهدتها العقود الاخيرة كان ولادة ما يعرف بالمثقف الديني، وهذا المصطلح من إنتاج الثورة الاسلامية في ايران وتجربتها الدينية.
والمثقف الديني مثقف ملتزم مقتنع بالوحي ومصادر المعرفة الاسلامية منفتح على المعرفة البشرية والمعارف الحديثة، لكنه لا يشعر بالاستلاب الحضاري للنموذج الغربي، كما لا يتردد في نقد بعض صفحات التجربة الحضارية الاسلامية، سواء في اتجاهاتها النظرية وتطبيقاتها العملية.
حضور المثقف ضرورة في واقعنا المعاصر كما هو ضرورة في كل الازمنة، ووجوده لا ينفك عن التأثر باتجاهات عصره ومعاركه الأيديولوجية، غير أن المثقف الملتزم مطالب بنقد الأيديولوجيا اليوم أكثر من الانخراط في مشاريعها السلطوية ونماذجها الدولتية، دولة الأيديولوجيا تبدأ بزخم تعبوي شديد وشعارات واحلام كبرى، ثم تبدأ بناها بالتصلب ومثالبها بالظهور كلما جنحت سلطاتها لتسويغ الشعارات والقفز على متطلبات الواقع المتخم بالتعقيدات، كل ايديولوجية تخضع لتعديلات تفرضها مقتضيات الزمان وعلاقات الانتاج ومخرجات السلطة، وفي خضم هذه الانتقالات تحصل تناشزات كبيرة بين الواقع والمثال، وبين قيم النظرية وممارسات التجربة، وفي أثناء عملية البناء والهدم الجارية يقبع المثقف راصدا التحولات متحررا من مأزق الاستتباع للسلطات، منحازا إلى الجمهور وقيم الحق والحقيقة والقانون والاخلاق، وهذه هي المهمة الاثيرة لكل مثقف جاد ملتزم رافض للاغراءات.