المفكر الألماني دوّن سجله الفكري والشخصي في الديوان الشرقي
17-حزيران-2023
إبرهيم العريس
بالنسبة إلى الشاعر والمفكر الألماني وولفغانغ غوته، لم يكن ثمة نوع أدبي يبدو غريباً عنه أو يصعب عليه الخوض فيه، سواء كان النوع إبداعياً أو علمياً بما في ذلك نظريات الفن ودراسات الألوان ومعانيها ودلالاتها، ولا سيما المسرح الذي من ضمن إنجازاته الكبيرة والخالدة فيه مسرحيته "فاوست"، من دون أن ننسى الرواية التي كانت من أقرب الأنواع الأدبية إلى فؤاده. ومع ذلك في مرحلة ما من حياته وحين أراد أن ينصرف بعض الوقت لكتابة سيرته، وجد نفسه كما سيقول لاحقاً، بل يوافقه مؤرخوه وكاتبو سيرته على ذلك، أن الطريقة التي تناسبه أكثر من غيرها لكتابة "تلك السيرة" تتمثل في إصدار ما سيسميه "الديوان الشرقي الغربي". وهو عنوان أثار في حينه كثيراً من الدهشة والفضول لدى قرائه. لقد أتى هذان من معرفة الجميع بأنه لئن كان غوته شاعراً عقلانياً بين أوصافه الأخرى ما يبرر كتابته سيرته شعراً، فإنه لم يكن مستشرقاً ولم يؤثر عنه اهتمام خاص بالشرق أو حتى لم يرو أحد ولا حتى هو شخصياً أنه زار الشرق، ليربطه بـ"سيرته". ولسوف يتبين عند قراءة ذلك الكتاب البديع أن غوته لم يدع ذلك إطلاقاً بل قدم نوعاً من رحلة ذاتية يجول فيها بين أشعار الشرقيين ولا سيما المسلمون منهم عرباً كانوا أو آسيويين آخرين.
عناوين الغرابة
ومن هنا لم يعد في وسع أحد من قرائه على مدى القرنين اللذين مرا منذ صدر ذلك السفر الكبير الذي نقله إلى العربية عبدالرحمن بدوي، أمام "فصول" من "الديوان" تحمل عناوين مثل "كتاب المغني" و"كتاب حافظ" و"كتاب التفكير" و"كتاب الحزن" و"كتاب الحكم" و"كتاب تيمور" و"كتاب زليخة" و"كتاب الساقي" و"كتاب الأمثال" و"كتاب الفارسي" و"كتاب الخلد"... عناوين متعددة لفصول في كتاب شامل قد يبدو، للوهلة الأولى للقارئ أنه كتاب شرقي له علاقة مباشرة بالإسلام وفارس والتراث العربي. والقارئ إذ يعتقد هذا سيكون مصيباً، لكنه لن يصل إلا إلى نصف الحقيقة، ذلك أن الكتاب المعني هنا، يغوص في روح الشرق على مدى صفحاته التي تقارب 500 صفحة، لكنه كتب في أوروبا، في وسط أوروبا، وبالألمانية عند بدايات القرن الـ19. إنه ينتمي إلى ذلك العالم وذلك الزمن، على رغم امتلاء صفحاته كلها بأسماء وأفكار وإحالات مستمدة تماماً من عالمي الشرق والإسلام، وأيضاً على رغم أن الحكايات التي يحكيها، حتى لئن كانت ذات أصول توراتية أو مسيحية، تبدو مستقاة مباشرة من التفسير الإسلامي لها.
خلاصة رومانطيقية
ومهما يكن من أمر يمكن القول بكل بساطة إن غوته الرومنطيقي لم يكن من الغريب عليه أن ينصرف بجد وإقبال إلى وضع هذا الديوان خلال فترة كان يشعر فيها أن أوروبا، التي ينتمي إليها وعمل طويلاً من أجل ثقافتها، لم تعد تعطيه كثيراً مما كان يأمل منها. حدث ذلك حين حلت الهزيمة النهائية بنابوليون بونابرت، الذي كان يشكل مثلاً أعلى بالنسبة إلى غوته - كما بالنسبة إلى غيره من المفكرين الأوروبيين -. وأمام تلك الهزيمة، بل حتى قبل ذلك، أمام الأخطاء التي ارتكبها نابوليون خلال سنواته الأخيرة، كانت هناك خيبة الأمل العامة التي استشرت بشكل مدهش تجاه نابليون وتصرفاته بعدما كان، والثورة الفرنسية أملاً للشعوب والمثقفين - وهو ما سيحدث بعد ذلك بقرن ونيف بالنسبة إلى ستالين وموقف المفكرين والمثقفين الكبار في العالم منه -. إذاً انطلاقاً من هنا ومن هم بدا مشتركاً بينهم، راح كبار المفكرين الأوروبيين يبحثون عن الحلول المثلى في مناطق كما عن مثل عليا في مناطق أخرى يحلونها مكان الصنم الذي هوى. وبالنسبة إلى غوته كان كل شيء جاهزاً ومقدراً سلفاً. فهو كان اهتم بالشرق، ثم بالإسلام باكراً حين كان يجمع المعلومات لكتابة مسرحيته عن "محمد" (صلى الله عليه وسلم)، وانكب حينذاك على دراسة اللغة العربية، أسوة بالعبرية والفارسية. لكنه لئن كان فشل في إتقان العربية، فإنه عوض عن ذلك من خلال تعمقه في قراءة كل ما ترجم من آداب عربية وفارسية، ولا سيما "المعلقات" التي قلدها ذات مرة، وأيضاً قصائد الشنفرى، التي سنجد صدى لها في واحدة من أجمل قصائد "الديوان الغربي - الشرقي" لاحقاً. بعد ذلك وفي الوقت الذي كان فيه نابوليون ينهار، ويخيب أمل غوته وغيره نتيجة ذلك، حدث أن ترجم المستشرق جوزيف هامر ديوان "حافظ الشيرازي". على الفور قرأه غوته فكان الأمر بالنسبة إليه أشبه بإشراق ما بعده إشراق. كتب في يومياته كلمتين فقط: "حافظ، ديوان".
الكتاب - التحية
نشر غوته "الديوان الغربي - الشرقي" في شكله الأول في عام 1819، ثم أضاف إليه في الطبعة النهائية نحو 40 قطعة جديدة، بين قصيدة ونص تفسيري، مما جعله في نهاية الأمر أشبه بموسوعة عن الفكر والشعر الشرقيين كما وصلا غوته في ذلك الحين المبكر من عمر الاستشراق ومن عمر الرومنطيقية، خصوصاً أن غوته أضاف كثيراً من الملاحظات حول كثير من الشعراء - ولا سيما الفرس - الذين كتب على غرارهم وشاء أن يجعل من كتابه كله تحية لهم. وهذا ما جعل الكتاب ينقسم إلى قسمين رئيسين: الأول الذي يضم الكتب الـ12 التي أشرنا إليها. والقسم الثاني الذي يحمل عنوان "تعليقات وأبحاث تعين على فهم الديوان". ولئن كان غوته قد أطلق العنان في القسم الأول لمخيلته الشعرية مستعيناً بكل ما لديه من ترسانة شعورية ومعرفية، ومن توق إلى الغوص في عالم الشرق المدهش، فإنه في القسم الثاني ركز على معرفته الموسوعية في فقرات وأشعار وسرد لحوادث تاريخية وتعريف بالشعراء والمفكرين، بحيث إن هذا القسم من الكتاب جاء "أشبه بسيرة ذاتية" تسهب في وصف علاقة غوته بالإسلام وبالاستشراق وبالحياة الروحية في شكل عام. وحول هذه النقطة الأخيرة لم يكن الراحل عبدالرحمن بدوي بعيداً من الصواب حين قال إن غوته الذي ظل منذ بداياته، وفي شكل عام، يبحث عن الظاهرة الأولية للدين في الأديان المختلفة "مقبلاً عليها جميعاً في سعة من العقل وخصب من الخيال وفسحة في أفق الفكر، معجباً بما فيها كلها من طهارة وسمو وكمال"، جعل من كتابه هذا، وفي تسميته "أعظم وثيقة عبر فيها عن موقفه بإزاء الدين والأديان (...) وطبيعي أن يكون نصيب الإسلام من بين هذه الأديان جميعاً، النصيب الأوفر في هذا الديوان، لأن الديوان قد نشأ (...) تحت تأثير إسلامي خالص تقريباً، ولهذا نرى الطابع الإسلامي غالباً على كل شيء فيه". ويرى بدوي أيضاً أن هذا كان طبيعياً بالنسبة إلى مفكر "لطالما أظهر إعجابه بالإسلام، حتى اعتبره هو والتقوى شيئاً واحداً، مما أدى به إلى أن يقول: إذا كان الإسلام معناه التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعاً". إن هذا كله جعل الباحثين في حياة غوته وأعماله يقولون دائماً إن هذا العمل (الديوان) كان من الأعمال القليلة التي وضع فيها غوته شيئاً كثيراً من ذاته، على رغم الترسانة المعرفية التي تملأه. كذلك، فإن غوته لم يكف عن إسداء التحية على صفحات هذا الديوان الفريد، إلى أساتذته وكل الذين كان لهم الفضل في اطلاعه على عالم الشرق.
إحصاء مستحيل
عند نشر يوهان وولفغانغ فون غوته ديوانه الغربي - الشرقي كان في حوالى الـ70 من عمره، وكان قد بات من النضج وغنى التجربة والسمعة ما جعل منه واحداً من أعظم الأدباء الذين أنتجتهم أوروبا في تاريخها. وهو ولد عام 1749 في فرانكفورت آم مين في ألمانيا. ودرس القانون باكراً. ثم إنه إذ أقام في لايبزغ منذ عام 1775، انتمى في شبابه إلى حركة "الاندفاع والعاصفة" ذات النزعة التمردية والرومنطيقية وكتب تحت تأثير أفكارها بعض مسرحياته وقصصه. وهو بعد ذلك وقع في غرام شارلوت التي هدأت من روعه سياسياً وزادت من لهيبه عاطفياً وكتب لها 1500 رسالة، كما كتب معظم أعماله التالية تحت تأثيرها. ومن الصعب طبعاً إحصاء أعمال غوته في هذه العجالة. فغوته الذي رحل شيخاً في عام 1832، كتب عشرات النصوص الروائية والمسرحية والفلسفية والسياسية، ويعتبر "الديوان الغربي - الشرقي" واحداً من أهم أعماله وأشهرها.