د.سلوى جرجيس*
يقول محمود درويش:
على هذه الأرض مايستحق الحياة
على هذه الأرض سيدة الأرض
أمُ البدايات، أمُ النهايات
كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين
سيدتي: استحق، لأنك سيدتي
استحق الحياة
من المعلوم أن أولى وأهم وظائف اللغة هي التعبير والتوصيل، وأن الأدب بكل أشكاله لم ينفصل عن اللغة، بل أن جمال اللغة وحيويتها على التعبير يتجلى في كثير من الاحيان في العمل الابداعي الأدبي من خلال قدرتها على التعبير عن المضامين والقضايا الانسانية وبأسلوب مؤثر في المتلقي.
مسرحية ( غزَة ) من المسرحيات الصامتة، ومفهوم المسرحية الصامتة يتمثل في أنه نوع من المسرحيات التي تتأسس على نوع سابق هو (البانتومايم)، والبانتومايم مسرحية يتم تقديمها عن طريق ممثل أو عدد من الممثلين يمتلكون مهارة تقليد موقف أو شخصية عن طريق استثمار الطاقة الحركية أي الأداء بلغة الجسد، أداء يتجسد فيه التعبير والايحاء والاشارة بدرجة كبيرة، أما المسرحية الصامتة فيتم تأليفها نصا من قبل الكاتب وعرضا من قبل المخرج بالاعتماد على الممثل وقدرته على التعبير الحركي والايمائي من خلال تكثيف استثمار طاقة لغة الجسد، وتتضمن مشكلة من المشاكل التي يعيشها الانسان على وجه الأرض، وتسعى من خلال ذلك الى التأثير في المتلقي / المتفرج، وهذا الامر يكمن في مدى حضور الفكرة في موضوع المسرحية، وقدرة الشخصية وقابليتها على التأثير في تأجيج مشاعر وعواطف المتلقي/ المتفرج، الى جانب الاستعانة بالموسيقى والديكور، فهذا النوع يمكن ان نقول عنه انه فن يتجلى فيه الصمت في مقابل الحاجة الماسة الى الكلام حتى يبدو الصمت هو الكلام ، ويقدم المسكوت عنه من الموضوعات في وقت يسود فيه الخوف بسبب قمع الحريات وغيرها من الأسباب.
قامت المسرحية الصامتة في الاساس على المحاكاة الصامتة، الا أنها أختلفت عن البانتومايم في أنها تضمنت شروطا أهلتها لتكون قابلة للقراءة والعرض بوصفها نصا احتوت على قصة، فيها حبكة تقوم على بداية ثم تأخذ بالتطور، حتى تتأزم فتصل الى الذروة ثم تنفرج، وشخوص تقوم بتجسيد فعل ما بمهارة وتقتية عالية من الأداء الحركي الايمائي التعبيري، والذي يتم من خلاله تقديم صورة لفعل ما أو قضية ما، الى جانب الاعتماد على الفنون الاخرى، وجميع هذه المقومات تتواشج لمعالجة أو تقديم قضايا انسانية، قد يصعب البوح بها بصورة مباشرة.
فالمسرحية الصامتة هي ذلك النص القابل للقراءة والعرض، وأول نص مسرحي صامت وصل الى القراء هو نص بكيت المترجم(فصل بلا كلمات)، وقد أشار الى هذا النص الكاتب صباح الأنباري في المبحث الاول من المجموعة المسرحية الكاملة(المسرحيات الصوامت)، والذي جاء بعنوان(المسرحيات الصوامت من الفعل الى التجنيس).
والأنباري عرف بوصفه ممثلا، ومخرجا، وناقدا، وكاتبا للنصوص المسرحية، إلا أنه تميز في حقل التأليف المسرحي بكتابة مسرحيات، أصدرها ضمن مجموعات صنف قسما منها بالمسرحيات الصائتة، والقسم الآخر بالمسرحيات الصامتة،
العنوان فضاء للمقاومة :-
ومسرحية ( غزَة ) مسرحية صامتة، وأول مايواجهنا فيها عتبة العنوان، تلك العتبة التي تعد من العتبات النصية المهمة، لأنها تكون بمثابة الهوية للنص تدل عليه، فهي تمثل شبكة دلالية تقوم على اثارة انتباه القارىء وتغريه للولوج الى متن النص، للكشف عن شفرات النص، واشتغالات النص على مستوى البناء والفكرة، وتتشكل من مستويات عديدة، منها المستوى التركيبي، والمستوى االجمالي، والمستوى الدلالي، ويتمثل المستوى التركيبي للعنوان في الصياغة النحوية المستندة الى الجملة الاسمية المحذوفة اسمها والمقدرة بـ (هذه) فتقدير العنوان هو ( هذه غزَة)، وبما أن الجملة الاسمية تدل على الثبات فإن استعمالها هنا جاء ليؤكد أن غزة باقية بشموخها وقوتها في التصدي للعدوان الاسرائيلي.
أما في المستوى الدلالي فإن العنوان يوحي الى استحضار المكان بوصفه فضاء والتركيز عليه، لا من حيث المكان فحسب، وإنما من حيث الاحداث والشخصيات والصراع القائم بين الفلسطينيين والاسرائيليين، حتى غدت غزة رمزاً للجهاد والنضال ضد الظلم الواقع على الفلسطينيين هناك بسبب الهجمات الاسرائيلية المتكررة عليها، طوال سنوات منذ الاحتلال الاسرائيلي على فلسطين وحتى الوقت الحاضر ، فجاء الاسم ذات علاقة وثيقة بالمتن، تكشف عن معاناة الفلسطينيين وقسوة الظروف المحيطة بهم، فكلمة (غزَة ) تعكس عمق المعاناة من ناحية، وقوة المواجهة المتجسدة في صلابة الموقف وشجاعة أهل غزة من ناحية أخرى، فمدلول كلمة غزة لم تعد تشير الى الفضاء المكاني فحسب، وانما تتجاوز ذلك الى الفضاء الزمني التاريخي، الى فضاء الحرب والقتل والتهجير والتدمير، قتل الابرياء من الاطفال والنساء ، حتى اصبحت غزة فضاء لنزيف الدم من كل انحاء المدينة، فغزة بوصفها عتبة تعين على استحضار تلك المشاهد الدموية ووجوه الاطفال الابرياء والنساء اللواتي فقدن ابناءهن او ازواجهن او الاسرة بأكملها، فغزة الجريحة غصة في حناجرنا وقلوبنا، وهي تصارع جيش الاحتلال لوحدها، فمفردة غزَة اتسعت دلالتها لتكون شاملة فضاءات عديدة تعكس واقعا أليما، شريطة النظر اليه بحتمية انهاء هذا الواقع وتغييره الى ماينبغي أن يكون عليه.
التمظهر المعجمي للغة الفعل في الحكاية:
يقول عبدالكريم برشيد في كتابه ( حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي): " ان البحث عن لغة مسرحية حقيقية، لغة تكون أكبر من اللفظ وأرحب من الأصوات والاشارات" وهو بهذا انما يشير الى ذلك الارتباط الحاصل بين اللغة المسرحية بكل عناصرها، وماتوحي به من مدلولات يجعل القارىء مرتبطا بها، من خلال التفاعل الحاصل المتمثل بما توحي به اللغة من تأثير في المتلقي، وجمال التلقي من قبل القارىء، فاللغة المسرحية ليست النص المكتوب فحسب ، وانما يدخل ضمنها الديكور والموسيقى والرقص واللوحات ذات العلاقة بالنص وامور تقنية أخرى.
وعلى الرغم من قصر نص المسرحية إلا أنه جاء نصا مكثفا ذا طاقة ايحائية دلالية تعين على استحضار المشهد، وكأن القارىء جالس أمام خشية المسرح يشاهد العرض، ولعل أكثر ما جعل الكاتب الانباري موفقا في ذلك هو استخدامه للفعل بصيغة المضارع بكثرة، وهذا الفعل كما نعلم له دلالته على الحركة(الفعل وحدوثه الآن) مثال ذلك: (يرتدي – تظهر – يظهر – يكتشف – يرفع – يتقدم – يقف – يطعن – يحرك – يمخر – يجرف- الخ) وكذلك نجد أن الأفعال تنقسم الى أفعال هجوم ومقاومة، فمن أفعال الهجوم من قبل الشخصية الصهيونية(يلتفت – يرفع رمحه مهددا – ينظر الى الخريطة بازدراء وحقد دفين – يتقدم مثل صائد يسعى خلف طريدته – يحرك الرمح – يطعن الخريطة -)
أما الأفعال التي تجسد المقاومة ( يقف - يقاوم - يتحرك نحو الخريطة – ينتزع منها الرمح – يتوجه اليه مهددا- يغرز الرمح في جسده – يكسر- يرفع النصفين الى الاعلى) ولابد من الاشارة الى أن أهمية هذه الافعال تكمن في الوصف الذي يتجلى من خلال الجملة.
جمالية الوصف :
ويرى فيليب هامون :" أن الوصف ليس ابدا هو الوصف الواقعي بل أساسا: هو "ممارسة نصية" وقد أشار الى أنواع الوصف منها وصف الامكنة والمشاهد، ووصف المظهر الخارجي للشخصيات، ووصف الكائنات الخيالية، وفي مسرحية غزة أول مايواجهنا من وصف هو وصف المظهر الخارجي للشخصية ، فالانباري قدم وصف الشخصية الاولى من خلال وصف ملابسه، قائلا: "رجل الرمح يرتدي سروالا أزرق وقميصا أبيض معلم بخطين أزرقين ورأس رمحه مزين بنجمة سداسية " فاستخدام اللونين الأبيض والأزرق انما جاء ليرمز الى الاسرائيلين الصهاينة من خلال الوان ملابس رجلا الرمح، إذ أن هذين اللونين هما من ألوان العلم الاسرائيلي، ومايعضد هذه الاشارة هو وصف الرمح، حيث وصف رأس الرمح بأنه كان مزينا بنجمة سداسية، والعلم الاسرائيلي يحتوي على نجمة سداسية ، وهذا الوصف المقتضب جسد الاحتلال في صورة قاتل بدلالة استعمال الرمح الى جانب تمثيل الوجود الاسرائيلي بكل قوة بدلالة الاشارة الى العلم.
وفي المقابل هنالك شخصية الشاب في مقتبل العمر الذي يرمز الى الفلسطينين، وخريطة فلسطين التي تظهر عليها مدينة غزة بكل وضوح، وتقديم الوصف بهذا الشكل من وصف الشخصيات والاشياء والافعال التي أوردنا ذكرها سابقا ، إنما يجسد كفتي الصراع بشكل بارز من خلال اللغة المكثفة والعبارات المؤدية الى تحقيق الهدف منها، لاسيما وأن مسألة الصراع بين الفلسطينين والصهاينة ليست صراع اللحظة أو اليوم، وانما هو صراع مستمر، لاسيما وأن مدينة غزة من أكثر مدن فلسطين مقاومة للاحتلال، وهذه المسرحية كتبت تزامنا مع مأساة غزة في هذا العام، المأساة التي تركت صدى كبيرا على مستوى العالم والانسانية جمعاء.
كما نلاحظ أن الكاتب استعان بتقديم بعض الارشادات المسرحية، منها كيفية ظهور الخريطة، كما ورد في نص المسرحية: " مجسم خريطة فلسطين معلقة على الجدار الخلفي للمسرح وتظهر عليها مدينة غزة بوضوح شديد" فمفردة معلقة ..وتظهر .. بوضوح شديد، تعين المخرج على تقديم العرض بشكل دقيق من ناحية، واستحضار المشهد من قبل المتلقي/ القارىء من ناحية أخرى، الى جانب ماورد من ارشاد حول نتيجة غرز الرمح في قلب غزة على الخريطة: حيث يوجه الى تقديم عرض سينمائي بقوله" تفتح شاشة العرض البيضاء..فلم يصور حال المدينة، الدم يمخر في شوارعها، يجرف كل شيء..متخبطين في الدماء ينزلقون بالدم ، يصرخون من شدة التعب" ، وهذا الوصف يصنف ضمن وصف المشهد ، وقد جاء وصفا جميلا لفضاعة وقسوة الموقف هناك، فالانباري بعدسته السينمائية تمكن من تقديم لقطات دقيقة حول نزيف الدم، اذ أن اللقطة الأولى تجسد منظر الدم وهو يملأ شوارع مدينة غزة، ثم ينتقل بكاميرته الى حال الناس من أهل غزة وهم يتخبطون بالدم، واستعماله لجملة ( ينزلقون بالدم) يعبر عن كثرة الدماء التي سالت من الضحايا الفلسطينين بحيث أصبح من الصعب الوقوف على الأقدام، حتى نال منهم التعب، وهذا الوصف يجسد وحشية الاسرائيليين وانعدام المشاعر الانسانية لديهم.
وفي مقابل هذا الوصف يقدم لنا الكاتب الشاب وهو يستعد للانتقام من القتلة،" يظهر رجل الرمح خائفا مترددا متوسلا بالشاب الايؤذيه،..يغرز الرمح في جسده..ينتزع الرمح..يكسره ..يرفع النصفين الى الاعلى ملوحا بهما مع شعور كبير بالانتصار" فهذه الارشادات المسرحية مهمة وهي تدخل ضمن لغة الفعل المسرحي، وبهذه الخاتمة يذهب الانباري الى القول أن النصر قادم لامحالة، وأن الصهاينة مصيرهم الى الزوال، وأن الشباب الفلسطيني خير من يقف بوجه المحتل، وأن الظلم له نهاية حتمية، وقد نجح الانباري في توظيف خبرته وادواته في مجال المسرح لتقديم معنى عميق ومشهد مؤثر لحادثة تاريخية من خلال نص قصير يؤرشف لالام ومعاناة شعب أمام جهة لا يعرف معنى الانسانية.
والمسرحية حين تقدم الظلم والقسوة فإنما تحاول بذلك تقديم الإدانة للظلم والطغيان، للمكر والباطل، رافضة لاغتصاب حق الانسان في حياة حرة كريمة، فهذا النص نص يخاطب العقل والعاطفة، ويقدم لنا صراعا قديما وآنيا لواقع انساني مرير، والأنباري حين أقدم على تقديم هذه الصورة للواقع بهذ الشكل، إنما نظر اليه من منظار انساني متعدد الأبعاد، مستخدما لغة بسيطة من حيث المفردات عميقة من حيث المعنى، وذلك لتوجيه القارىء أو المتفرج الى مايقبع خلف هذا الواقع من مشاعر وأفكار، فكانت اللغة العربية لغة الأدب والتواصل والتأثير، لغة التغيير والاصلاح.
ويبقى الأنباري صاحب تجربة في حقل المسرح، لايتوانى عن الدخول في عالم التجريب المسرحي من خلال استثماره لمرجعياته الأدبية والفكرية والثقافية، ويوظفها في نصوصه المسرحية، ولعل تبنيه العمل على المسرحية الصامتة بوصفها نصا قابلا للقراءة والعرض، من حيث كونه مؤلفا ومخرجا يُعد بصمة واضحة على جهوده في حقل المسرح، كل هذه الأمور تعكس مدى مهارة هذا الكاتب وابداعه، وتمكنه من أدواته، الى جانب احساسه العميق بالانتماء للانسانية والهوية العربية والقضية الفلسطينية.
* جامعة كركوك/ كلية الاداب