النظرية السياسية الرابعة مقاربات فكرية وجيوسياسية
9-آب-2023
د. أسعد كاظم شبيب
قد لا يبدو العنوان غريبا في عالم السياسة، اذ درج هذا العالم على دراسة المذاهب السياسية والفلسفية، والآراء والنظريات، والمواقف السياسية منذ ان وضعت الأسس الأولى للنظرية السياسية من قبل الفلاسفة اليونانيين القدماء أمثال افلاطون، وارسطو وغيرهما الا ان النظرية السياسية في عالم الفكر والواقع السياسي باتت تحمل متغيرات وتحولات كثيرة، من هنا ظهرت خلال مائة عام الأخيرة العديد من النظريات السياسية ومن ذلك ظهور الليبرالية والاشتراكية ونظريات أخرى على مستوى العلاقات الدولية مثل البنيوية والواقعية وما الى ذلك.
وفي العقد الأخير من هذا العقد وبالتحديد بعد مرور سنوات على انهيار الاتحاد السوفيتي وبعد صعود دول تصنف على العالم الشرقي مثل روسيا، والصين، ودول أخرى، طرحت ما يسمى بالنظرية السياسية الرابعة لتكون في قبال نظريات عرفها العالم الغربي وكانت محل تصادم أيديولوجي وسياسي مع العوالم الأخرى، وفي مقدمة تلك النظريات الليبرالية، والشيوعية، ومن ثم الفاشية، ولغرض الوقوف على ماهية النظرية السياسية الرابعة وابعادها ومقارباتها الأيديولوجية والسياسية والدولية، سنتناولها من خلال المحاور الاتية:
أولاً: ماهية النظرية السياسية الرابعة
ترجع أصول هذه النظرية الى المفكر الروسي وعالم الاجتماع الكسندر دوغين الذي صدر له العديد من المؤلفات، وابرزها كتابه الموسوم (النظرية السياسية الرابعة) كتبه في عام 2009 ويصنف صاحب هذه النظرية في بعض الادبيات السياسية على انه مؤسس ما يسمى بـ(النيو الاوربية الاسيوية)، كما يعد العقل المدبر لسياسات الكرملين، والمستشار والمنظر السياسي والايديولوجي لروسيا بوتين.
يعتقد صاحب النظرية بأن النظريات الثلاث السابقة وهي كل من: النظرية الليبرالية التي يتبناها العالم الغربي وفي مقدمته الولايات المتحدة الامريكية، وعموم الدول الاوربية، والعديد من الدول أيضا حتى في العالم الثالث، والنظرية الشيوعية التي تبنتها كل من دول الاتحاد السوفيتي السابق، والصين، وعدد من الدول ومنها دول العالم الثالث أيضاً، والنظرية الفاشية بما فيها النازية، والنقابية الوطنية، والعديد من الحركات التي ظهرت في عدد من الدول الاوربية مثل إيطاليا، وكذلك في دول العالم الثالث من خلال صعود الديكتاتوريات المستبدة، هذه النظريات الثلاثة انتهت باعتقاد صاحب النظرية الرابعة وذلك بانهيار الشيوعية، والفاشية فإن الليبرالية وان بدت هي المسيطرة على العالم فكريا وسياسيا كما ذهب المفكر الأمريكي من أصول يابانية (فوكويا) في كتابه (نهاية التاريخ) لكن قابلها صعود من نوع اخر للدول التي تنمو بصورة متسارعة لاسيما على المستوى الاقتصادي، ومن ذلك دول اوراسيوية، لذا يحاول الكسندر دوغين من خلال ما اسماه بالنظرية السياسية الرابعة تقديم نموذج خارج النظريات الثلاثة المشار لها، قوام هذه النظرية هو عدم التركيز على الفرد أو العرق أو القومية، وإنما تركز على الوعي الذاتي الإنساني الذي همشته التكنولوجيا. فهي فكرة غير مادية تعارض المادية.
وطبقاً للباحث الهام ناصر فإن النظرية تذهب الى ان إمكانية الدخول في صراع مع الواقع، مثل ذلك الذي لم يظهر بعد لمهاجمة ما هو موجود بالفعل. في الوقت نفسه، لا يمكن أن تكون النظرية السياسية الرابعة استمراراً للنظرية السياسية الثانية أو الثالثة، لأنها لم تكن نهاية الفاشية، مثل نهاية الشيوعية، لمجرد سوء فهم عرضي، بل كانت تعبيراً عن منطق تاريخي واضح إلى حد ما.
وتحاول النظرية استهداف الحالات الاتية:
1- التركيز على سامية الحضارة الروسية.
2- الايمان بالتعددية القطبية بدلا عن القطب الأحادي الذي تبنته الولايات المتحدة الامريكية بعد الحرب البادرة إثر انهيار الاتحاد السوفيتي.
3- تصفير الاستعمار.
4- معاداة الرأسمالية.
5- معاداة الليبرالية.
6- نقد القيم الغربية.
ثانياً: البعد السياسي والدولي للنظرية السياسية الرابعة
تحاول هذه النظرية ان تطرح نفسها في قباله النظرية الليبرالية، وكبديل منافس لليبرالية، وعموم حلف شمال الأطلسي، ويمكن ان تتجسد من خلال الاتحاد ضد الليبرالية الديمقراطية التي يتبناها الغرب، من خلال تعزيز قيم الثقافة والتقاليد الوطنية، كما تهدف الى حماية الوجود وبناء برنامج سياسي متكامل من خلال الاتحاد ما بين مجموعة دول تنتمي الى ثقافة متقاربة، وتشترك بالعديد من الاواصر السياسية والاجتماعية، كما انها تلتقي في معاداة الليبرالية، وفوضى الحداثة الغربية كما يدعي صاحب النظرية.
ومن ذلك يشير الكسندر دوغين من ان روسيا كوريث للاتحاد السوفيتي، وتنتمي الى عالم الشرق ثقافياً يتوجب عليها ان تقف كزعيم في وجه العالم الأحادي، وبالتحديد ضد القطب الغربي الأمريكي، واراد بذلك انشاء تكتل ثقافي وسياسي عبر عنه (الاوراسية) ومن خلال العلاقة التشاركية مع دول أخرى وفي مقدمتها الصين، والهند، وايران، وتركيا، والعديد من الدول في اوروبا الشرقية، وتشترك بفلسفة سياسية مع ثلاث مستويات خارجية، ووسطى، وداخلية.
وطبقاً للكاتب محمود محمد علي فإن المستوى الخارجي يشتمل من خلال النظرية السياسية الرابعة بأن يكون العالم متعدد الأقطاب، أي هناك اكثر من مركز دولي لصنع القرار، احدى اهم هذه الأقطاب هي دول (الاوراسية) التي تضم كل من روسيا، ودول الاتحاد السوفيتي السابق، ويتابع الاوراسية على المستوى المتوسط فترتكز على الالتقاء مع دول الاتحاد السوفيتي السابق من خلال تشكيل دول مستقلة، اما المستوى الداخلي فيشير الى تحديد الهيكل السياسي للمجتمع وفقاً للحقوق المدنية، وعلى أساس اقسام من نموذج الليبرالية، والقومية، وتكون سياسة مستقلة عن العولمة، والعالم الأحادي القطبية، والقومية، والامبريالية، والليبرالية.
ثالثاً: الانتقادات التي وجهت للنظرية السياسية الرابعة
واجهت النظرية السياسية الرابعة ومقترحها العديد من الانتقادات كغيرها من النظريات التي واجهت انتقادات عديدة، ومن ذلك المبالغة في الطرح، وعدم التمايز ما بين البعد الأيديولوجي والثقافي التي بنيت عليه النظريات الثلاثة كالليبرالية والشيوعية وحتى الفاشية حيث وضعت على أسس فكرية وبنوية وفلسفية وقوامها يرتكز عليه البنية السياسية المتمثلة بالنظام السياسي، والدستور والبنية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية في حين ان النظرية السياسية الرابعة تعرض نفسها كبديل عن النظريات الثلاث وهي ترتكز على البعد السياسي والجغرافي التعاضدي الاتحادي، ولم تطرح رؤاها للبنية السياسية داخل الدولة، وكذلك رؤيتها للبنية الفكرية والاجتماعية. كما ان هناك انتقادات اخرى موجهة لصاحب النظرية هو انه يعتبر الليبرالية شر مطلق، وهذا رأي غير دقيق، وان نظريته تشجع على الديكتاتورية، والتطرف، والسلطة المطلقة. من جانب ثاني دخول النظرية الى صدام مع الآراء والمبادئ مثل الحداثة او التكنولوجيا رغم ان روسيا وعموم الاتحاد السوفيتي السابق كان اول من استفاد من المنظومة التكنولوجية خصوصاً في سباق التسلح وحرب النجوم وما الى ذلك اثناء صراعها مع الولايات المتحدة الامريكية.
اما عن ارتباط النظرية السياسية الرابعة مع العقيدة السياسية الحاكمة في روسيا فإن هناك العديد من المؤاخذات التي ساهمت النظرية وتنظيرات صاحبها الكسندر دوغين، ومن تللك المؤاخذات صعود الديكتاتورية السياسية، وتحول روسيا الى الحالة الاستعمارية بعد غزوها لأوكرانيا في انتهاك واضح لمبادئ القانون الدولي مع ان هناك إشكاليات كثيرة عن علاقة أوكرانيا مع خصوم روسيا مما سبب ذلك مشاكل لها وعرضت نفسها للتهديد الروسي، ودخول روسيا في عهد بوتين في خصومات سياسية وعسكرية مع دول الاتحاد السوفيتي السابق، وبالتحديد مع دول الجوار وشجعها ذلك كتهديد بالانضمام الى حلف الشمال الأطلسي او الناتو.
بالإضافة الى تفاقم التوتر الروسي- الأمريكي في العديد من المناطق، ومن ذلك في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك المخاطر التي سببتها على مستوى امدادات الطاقة الى العالم ومما ساهم ذلك في تداعيات اقتصادية كبيرة، الى جانب المخاطر الاقتصادية التي قد تؤدي الى الانهيار الداخلي في روسيا، إضافة الى تصعيد حدة المعارضة الشعبية الرافضة لسياسات بوتين الداخلية والخارجية.