الوقوف عند الزمن الأخر
فرات المحسن
حسب رواية أمّ قصيّ، زوجة الحاج رجب، فإن الحاج ولد في منطقة السيف من مدينة الناصرية، وأكمل دراسته المتوسطة فيها، وإن أصل عائلته من مدينة سوق الشيوخ القريبة. وقد انتقل رّب الأسرة منها إثر تكرار فيضان النهر لثلاثة مواسم وتلف المزارع، فاضطر السيد محيسن وهو والد الحاج رجب للهجرة والعمل مساعد قهوجي في مقهى خلف بناية المتصرفية وسط المدينة.تلك المقدمة كانت السيدة زوجة الحاج رجب ترويها حين يطلب منها الحديث عن أصل عائلة زوجها. عند هذا النص تتوقف وتنهي روايتها.
كان محيسن نموذجاً للعامل الدؤوب المثابر صاحب القفشات واللسان الذرب العذب الكلام، لذا أستطاع كسب ودّ جميع روّاد المقهى. ولأمانته وإخلاصه فقد منحه صاحب المقهى كامل الصلاحيات للتصرف بإدارتها، وزاد على ذلك، حين اختار له زوجة من أقاربه. لم تمض سوى خمسة أعوام على عمله في المقهى حين جاءت المصيبة، وبدأت تلاحقه لعنة قدمت إليه من مدينته التي عافها وراءه. فقد حضر أحد شيوخ عشيرة بني حِسنْ ليجلس في المقهى ذاته. حاول محيسن التهرب من تقديم الشاي للشيخ، ولكنه لم يستطع الإفلات من نظرات الشيخ التي كانت تلاحقه بشكل ملحاح. وأخيراً فشل محيسن في جميع محاولاته فقدم الشاي للشيخ ، و سبقه بابتسامة متهافتة وترحاب حارّ متملق. رد عليه الشيخ بعيون جاحظة وفم ممطوط.
ـ هله …هله. ها محيسن أبو التتن.شني بويه تشتغل هنا ؟
ـ أي ولله عمّي جا شيسوي بنادم …أهله ما يردوه يكَوم يدور على شغل بغير ديره.
ـ خوش …أهله ما يردوه لو البكَتهن ما سدّن العيشة.
ـ ما أدري شكَلك يالمحفوظ ..
ـ لازم محد هنا يعرف عن التتنات وغيرهن.
تلعثم محيسن وطأطأ رأسه، ثم نظر إلى صاحب المقهى وبعض الرواد الذين بدو وكأنهم ينصتون للحديث بفضول واستغراب شديدين. عاف شيخ العشيرة قدح الشاي ورفع جسده الثقيل عن الكرسي، وأشار لمرافقيه بالمغادرة وهو ينظر نحو محيسن هازاً رأسه بعلامة عدم الرضا، أو ما يشبه التأسف المخلوط بالغضب. لم يتمالك محيسن نفسه فأجهش بالبكاء وهو يعترف لصاحب المقهى بما وقع سابقاً في سوق الشيوخ حيث سرق محيسن محلاً لبيع التبغ والسجائر وغيره، عندما نشبت انتفاضة آل ريسان ضد الإنكليز عام 1935. وقد استغل محيسن الفوضى التي عمّت المدينة لينهب كذلك بعض محلات السوق الكبير. وقد اشتكاه أصحابها إلى الشيخ ريسان آل قاصد فأمر بجلبه لمعاقبته، ولكنه أستطاع الإفلات والوصول إلى الناصرية.
لم يبق على ولادة طفله الثالث غير شهر ونصف حين وجد محيسن نفسه عاطلاً عن العمل يتسكع بين الأزقّة. بضعة دراهم أدخرها لمثل هذا الوقت العسير نفدت سريعاً. مع تلك الحال كان يتحاشى الوصول لوسط المدينة وفضّل الجلوس في المقهى الواقع عند طرفها الجنوبي. ربما هي الصدفة، ولكن محيسن كان مؤمناً إيماناً قاطعاً بأن الحظ وافاه مع الصرخة الأولى لطفله القادم الذي سماه رجب تيمنا بالشهر الذي ولد فيه. فقد حصل على العمل في محلّ لبيع الخشب والأدوات الزراعية الواقع وسط السوق، وكانت مثابرته وقوته الجسدية وسلاسة تعامله مع الزبائن، مبعث إعجاب وسرور صاحب المخزن. وبمرور الوقت كانت الدنيا تفتح أبوابها بوجهه، فبدأت صلاته تتوطـد مع أصحاب المحال والأعمال في السوق، وتوسعت لتصل إلى علاقات اجتماعية عائلية. لم يترك أبو رجب تلك العلاقات لتمرّ دون أن يستغلها لصالحه، فبدأ شراكته مع مقاول بناء دور سكنية، وكان نجاح الشراكة سبباً رئيسياً لتخلي أبو رجب عن عمله في مخزن الأدوات الزراعية، رغم علاقته الجيدة مع صاحب العمل. اتجه كلياً نحو المقاولات حيث أصبح أحد أهم مقاولي البناء في مدينة الناصرية، وخلال تلك الفترة، فواقعة سوق الشيوخ والمعلومة الطارئة التي قدمها عنه أحد الشيوخ ذاك اليوم، ما عادت تجد من يروّج لها أو يعتدّ بحقيقتها، واختفت كلياً مع صعود نجم أبو رجب، واحتسابه أحد الوجوه الاجتماعية ذات السمعة الطيبة في المدينة. استغرقت تلك الفترة وقتاً ليس بالقصير، كان خلالها رجب الذي جاء إلى الدنيا في وقت العسر لأبيه، ينمو سريعاً، واجتاز في دراسته مستواها الابتدائي بتفوق ظاهر، وبدأت ملامح الذكاء والفطنة تظهر عليه، ويؤكدها رفاقه ومعلـّموه، ويفخر بها والداه، لذا زجه أبوه في خضم العمل، مسنداً إليه مهمة مراقبة ومتابعة المشتريات وأجور العمال. بدا رجب وكأنه خُلق لتلك المهمة وذلك العمل، ومع مضي الوقت، كان يقدم لوالده المشورة في بعض أبواب الصرف، وينبّهه حول الفروقات بين أسعار موادّ العمل وكلفها وكيفية توظيفها أو استغلالها واختصارها.
في سن السادسة والأربعين كان رجب يمتلك مكتباً فارهاً عند طرف الزقاق المطل على شارع الحبوبي، والنازل نحو سوق الأقمشة. كان مكتبه عصراً يعدّ أحد أهم ملتقيات الشخصيات الاجتماعية والسياسية لمدينة الناصرية.
كان والده محيسن يجلس صامتاً كفيف العين ثقيل السمع، عند الطرف الأيمن من المنضدة الكبيرة التي يجلس خلفها رجب مزهواً ببذلة أنيقة ووجه بشوش وابتسامة لا تفارق محياه. كان المكتب يضج دائماً بالحركة، فقد تشعبت أعمال رجب ولم تعد مقتصرة على مقاولات بناء المنازل، فقد امتلك أكثر من خمس سيارات حمل قلاب لنقل الحصى والرمل والطابوق، وكذلك امتلك سيارة حوضية لنقل الأسمنت، وبات أحد أكبر المنفذين المهمين لعقود البناء والنقل للمؤسسات الحكومية، ليس فقط في مدينة الناصرية وإنما أمتد عمله ليشمل أيضاً أقضيتها، وكذلك بعض أعمال المقاولات في مدينة السماوة المجاورة. وأصبح رجب واحداً من شخصيات المدينة المهمة والمؤثرة، وكانت حظوته عند رجال السلطة تبدو ذات أثر فعّال، وباتت كلمته وحضوره يُحسب لهما ألف حساب. وكان حضور وجهاء المجتمع ومسؤولي السلطة والحزب في ضيافته أثناء الحفلات التي يقيمها،حديث الناس. وفي الكثير من الأوقات أثيرت الشكوك والتقولات حول ما يدور داخل تلك الولائم المتكررة، ولذا فقد ظهرت تقولات عن مصادر أمواله، تتهمه بالكثير من التهم. وبدورهم كان ضيوفه يعتقدون أن تلبية دعوات السيّد رجب والجلوس في ضيافته تعدّ فرصة مناسبة لمقابلة بعض ممّن يترقبون الفرصة للقائهم أو عقد صفقة من نوع ما، أو حتى تسوية بعض الخلافات وتصريف بعض الشؤون.