السيد عمار ابو رغيف
إن نشأة دلالة القضیة التي تقول: «العدد (2) نصف الأربعة» تسبق قیام دلالة الكبری الكلیة، التي تعمم وتشمل كل عددٍ ینقسم الی عددین متساویین فالعددان كلٌ منهما نصف العدد المنقسم؛ ورغم ما نراه من وضوح نعكف علی تفصیل القول: أنّ نتیجة القیاس المضمر تنعقد دلالتها قبل كبری القیاس «الفطري» المزعوم:
نأخذ كل النتائج المزعومة للأقیسة الثلاثة المتقدمة، ونضعها أمام كبریات القیاس، لنلاحظ أیّهما أقدم دلالةً؛ نبدأ من العدد (2) نصف العدد (4)»، ونلاحظ الكبری التي یزعمون استنتاج النتیجة منها، وهي «كل عدد ینقسم الی عددین متساویین فكلٌ منهما نصف العدد المنقسم». من المؤكد أنّ بناء الدلالات اللغویة یسیر في خط واحد مع بناء الفكر، یبدأ من الحس الی العقل، ومن البسیط الی المركب. ومن المؤكد لدینا أیضاً أنّ العلم واللغة علاقاتٌ كلیة بین مفاهیم كلیة، فالعلوم قوامها قوانین عامة، تكشف عن علاقات عامة بین مفاهیم كلیة، واللغة أیضاً هي علاقات بین طبیعي اللفظ وطبیعي المعنی، أي علاقات كلیة بین مفهوم اللفظ الكلي وبین مفهوم المعنی الكلي.
الدلالات اللغویة تنشأ من عالم الحس، الذي یوفر علاقات جزئیة، وارتباط جزئي بین الألفاظ والمعاني، وما یُسمی بالقرن الأكید بین اللفظ والمعنی، أو جعل اللفظ بإزاء المعنی، وغیرها من الإشارات الی مرحلة نشأة الدلالة اللغویة. لكن استقرار الدلالة وقیامها الوجودي لا یتحقق الا في سیاقاتٍ متعددة، یتم من خلالها تكوین المفهوم الكلي للمفردات وللعلاقات بینها. نعود الی موضوع استفهامنا: هل یمكن قیام دلالة الكبری في القیاس الفطري المزعوم قبل قیام دلالة النتیجة تصدیقیاً وتصوریاً؟ أي هل یمكن قیام دلالة «كل عددٍ ینقسم الی عددین متساویین فكلٌ منهما نصف العدد المنقسم» في التصدیق بدلالة الكلمات وعلاقاتها وفي تصور مفردات هذه الكلمات والعلاقات، قبل قیام دلالة «العدد (2) نصف العدد (4)» في التصدیق بدلالة الكلمات وعلاقاتها، وفي تصور مفرداتها والنسب القائمة بینها؟
إذا افترضنا جدلاً أنّ مفهوم العدد مفهوم بدیهي ـ علی غرار مفهوم الزمان والمكان ـ كما تبناه بعض الفلاسفة المتقدمین؛ حینئذٍ نلاحظ أنّ العدد (4) أخص من [كل عدد]، أي أننا لكي نعرف مفهوم كل عدد فهذا یتطلب معرفة الأعداد، بل بعضها وتصورها، وهذا لا یتم الا بعد تكوین مفهوم العدد (4)، ومفهوم العدد (2)، وما یتسنی سواها من الأعداد، بل ما یتطلبها التعمیم لكل عدد. كذلك الحال في سائر مفردات المقدمة الكبری في القیاس الفطري المزعوم.
ثم لاحظ النسب والعلاقات الموجودة في جملة «العدد (2) نصف العدد (4)»، ثم قارنها بعدد النسب في جملة «كل عدد ینقسم ...» تجد أنّها أكبر عدداً، وأكثر تعقیداً، ومن ثمّ یتعذر أن یكون التصدیق بالكبری الكلیة في القیاس سابقاً ومتقدماً علی التصدیق بالنتیجة، التي هي أخف مؤونة دلالیة من المقدمة الكبری في القیاس الفطري المزعوم.
من هنا یتضح بجلاء أنّ نمو الدلالات اللغویة وتطورها من البسیط الی المركب لا یتوائم مع الذهاب الی القول بأن دلالة الجملة «العدد (2) نصف العدد (4)» تُقتنص وتترتب وترتكز علی قیام دلالة الجملة: «كل عددٍ ینقسم الی عددین متساویین ...»؛ لوضوح أنّ انعقاد دلالة الجملة الأولی أشد بساطةً بسیاقها وبمفرداتها من الجملة الثانیة. ومن ثمّ یتعذر علینا التصدیق بقضیة القیاس الفطري أو المكتسب، الذي یتم بموجبه إستنتاج جملة «العدد (2) نصف العدد (4)» من جملة لاحقة دلالیاً، وسیاقاتها لا تنعقد، الا بعد قیام سیاقات الجملة الأولی وانعقاد دلالتها..
من هنا یحق لنا القول أنّ هناك شكاً كبیراً في القول بأنّ الجملة الثانیة، التي هي كبری القیاس الفطري المزعوم، وهي: «كل عدد ینقسم الی عددین متساویین فكلُ واحد من العددین نصف العدد المنقسم» شكاً كبیراً في أنّ هذه القضیة معطیً فطري مغروز بالخلق والتكوین في العقل البـشري، وهذا ما سنزیده توضیحاً في الملاحظة التالیة:
الملاحظة الثالثة: كان وعدنا أن نكرّس هذه الملاحظة لتحلیل ونقد الفطریات [القضایا التي قیاساتها معها]، نكرّسها للتحلیل والنقد وفق منهج «تحلیل المعاني والأفكار»؛ بُغیة فهم ما یفضي إلیه هذا المنهج من موقف إزاء عدّ «الفطریات» في قائمة مبادئ المعرفة والبرهان، سواء اعتمدنا نظریة البرهان بمفهومها الأرسطي، أم اعتمدنا نهجاً آخر. أي أننا نرید تحدید الموقف من حكایة «الفطریات» علی مختلف مناهج الاستدلال المنطقي، ومختلف مذاهب المعرفة الإنسانیة.
نبدأ معاً من نص رئیس شیوخ المناطقة الحكیم أبي علي «ابن سینا»، اعني النص الذي تقدم نقله من كتاب الشفاء، حیث قال:
«وإما ان یكون المعین غریزیاً في العقل أي حاضراً ـ وهو الذي یكون معلوماً بقیاس حده الأوسط موجود بالفطرة وحاضر للذهن ـ ...
... وكذلك كلما تمثل للذهن أربعة، وتمثل الاثنان، تمثل في الحال أنها ضعفه لتمثل الحد الأوسط. وأما إذا كان بدل ذلك ستة وثلاثون أو عدد آخر، افتقر الذهن الی طلب الأوسط»( ).
أمامنا في هذا النص قضیة العدد «36» أو ما سواه من أعدادٍ یفتقر الذهن فیها الی طلب الأوسط. فهل یفتقر الی طلب الأوسط جراء غیاب المقدمة الكبری أم غیاب المقدمة الصغری؟ المقدمة الكبری تقرر: «ان كل عدد ینقسم الی عددین متساویین فالمقسم ضعف كل واحد من العددین، وهذه المقدمة محفوظة في كل الأعداد؛ اذن لماذا لا یتمثل الحد الأوسط في العدد «36» إذا تمثل العدد «36»، والعدد «18»؟ لا یتمثل الحد الأوسط دفعةً وبنقلة مباشرة؛ لأن قسمة العدد «36» الی العدد «18» وما یساویه لیست أمراً بدیهیاً یقفز الی الذهن بشكلٍ مباشر، فالخلل في حضور صغری القیاس.
العدد «36» ینقسم الی العدد «18»، وما یساویه، لكن ادراك ذلك لیس أمراً یأتي بلا نظرٍ وكسب، ومن ثم لا یتم القیاس الفطري، وتكون النتیجة من القضایا، التي قیاساتها معها. وبغیة توضیحٍ أكبر نقول: أنّ القیاس الفطري یفترض ان یتشكل علی النحو التالي، لإثبات أنّ «36» ضعف «18»:
العدد «36» ینقسم الی العدد «18» وما یساویه
كل عددٍ ینقسم الی عدد وما یساویه فهو ضعف ذلك العدد
العدد «36» ضعف العدد «18»
هنا نلاحظ:
أنّ قسمة العدد «36» الی العدد «18» وما یساویه یقفز الی الذهن بشكل مفاجئ الی أغلب، اذهان المتدربین علی العملیات الحسابیة، لكن هذه القفزة لا تحصل بمعزلٍ عن الدربة والتمرین علی العملیات الحسابیة. ومن هنا یضحی من المشروع ان نتساءل: هل قسمة العدد «4» الی العدد «2» وما یساویه أمرٌ یحدث، دون دربة وتمرین، لكي تمسي قضیة «العدد «4» ضعف العدد «2»» قضیة فطریة؟
قسمة العدد «4» الی العدد «2»، وما یساویه عملیة حسیة نظریة، شأن سائر قسمة الأعداد. عملیة التقسیم ذاتها تأتي، جراء النظر والتحلیل والتركیب. بلی كلما تقدم بنا الأمر في قسمة الأعداد احتاج الذهن البـشري لحفظ وتثبیت حاصل القسمة الی دربةٍ أكبر، ونظر أبعد. سهولة ویسر تعلم قسمة العدد «4» لا تعني سوی إنّ العدد «4» من أقرب الأعداد الی الحس، وإن عملیة قسمته تتاح بیسرٍ وسهولة، جراء تجارب حسیة متیسرة.
وأخیراً: یجوز لنا أن نقرر أنّ ما یسمی بالفطریات، أو القضایا التي قیاساتها معها لا یمكن أن تعد أساساً ومبدأً للمعرفة الإنسانیة.
ثم إننا لو عُدنا الی تعریف العدد الزوج، أو تعریف الضعف نجد أنّ الأمر لا یتعدی القول:
العدد الزوج هو العدد الذي ینقسم الی عددین متساویین. العدد الضعف هو العدد الذي ینقسم الی عددین متساویین أو العدد الذي یعادل عددین متساویین. كذلك الحال في النصف؛ إذ هو أحد القسمین المتساویین لأيّ عدد من الأعداد. أي هو أحد قسمي العدد المنقسم الی متساویین.
من هنا یتضح أنّ روایة الفطریات والقضایا التي قیاساتها معها لا تتطلب قیاساً لكي یكون أمر إثباتها رهن قیاس توأم معها، أو قیاس منفصل عنها. بل هي قضایا یُضمن عبرها الحصول علی العلاقات بین النتیجة وبین المقدمة المفترضة من خلال التعریف، فهي لیست برهانیة بوجه، وإنّما یتكفل الوصول الیها التعریف وحدود المفاهیم.
خلاصة البحث في اليقين البديهي
تناولنا البدیهیات في ضوء مدرسة ارسطو. وقد لاحظنا أن بعض هذه القضایا لا تنبثق في الذهن بشكلٍ أولي، ولا یصح اعتبارها من اُصول ومبادئ المعرفة الإنسانیة، التي تسبق التجربة والبرهان. یهمنا هنا أن نتعرض للبدیهیات، التي نقرّ ببداهتها، فنفحص طبیعة الیقین، الذي تتوفر علیه هذه القضایا، ثم نستأنف الحدیث عن الیقین الحسي، وملابسات الموقف منه في مدرسة التحلیل المعاصرة، فیما عُرف علی لسان «فتجنشتین»بالقضایا الموریة. أما الیقین الریاضي فسنقف عنده وقفةً تفصیلیة.
أما القضایا التي نعدّها بدیهیة فهي: مبدأ استحالة اجتماع النقیضین، ومبدأ العلیَّة. غیر أنّ تطبیق القاعدتین، وتحدید شروط سلامة التطببیق، لیسا بدیهیین، بل من شؤون عالم النظر والتأمل. سؤالنا هنا عن طبیعة التصدیق والأخذ بهذین المبدأین؟
في سیاق الإجابة علی هذا الإستفهام ینبغي تناول كل بدیهیة علی حدة، نبدأ بالقانون الأول الأعم، ثم نأتي علی مبدأ الوجود «العلیَّة».
قانون إستحالة إجتماع النقيضين:
منذ عصر الأوائل ـ خصوصاً هرقلیطس ـ حتی عصر الحداثة، هناك نقاش في بداهة وسلامة قانون استحالة إجتماع النقیضین، لا ابتغي إغفال هذا النقاش، حیث سأقارب درس هذا النقاش بجد. لكن فرضنا وقناعتنا تقرر بداهة قانون استحالة اجتماع النقیضین، ونبتغي فهم طبیعة الیقین بهذا القانون، وبحثنا في «الیقین»:
لعلّ تطبیق قانون استحالة إجتماع النقیضین علی التصدیقات «القضایا» أوضح وألصق بالبحث المنطقي، من تطبیقه علی المفردات «التصورات»، علی أنّ التحلیل اللغوي یلعب دوراً كبیراً في إیضاح الصور، وفي فهم صحة وسلامة التصدیقات والأحكام، وتفكیكها. لكننا إذا لم نطرح السؤال عن مفهوم «البداهة والبدیهي»، قبل الخوض في تحلیل مبدأ استحالة التناقض ومبدأ العلیة، نكون قد أهملنا إیضاح أساس اشكالیة مبادئ المعرفة، وحقیقة وجودها، وحجة الالتزام بها. هذا السؤال الذي سیُعاد طرحه بشكلٍ اعمق كلما تقدم بحثنا في فقراته.
اذن؛ ماهو البدیهي، وماذا تعني البداهة في المعرفة؟
نحن الآن في مبادئ المعرفة بمفهوم مدرسة أرسطو، ومن ثم سنقدم تعریفاً في حدود معطیات مدرسة أرسطو، وسنُرغم حینما یتقدم بنا البحث عن مبادئ المعرفة الریاضیة والیقین الریاضي، وعن الیقین الاستقرائي بمفهوم الاستقراء الحدیث، سنُرغم علی إعادة درس مفهوم البدیهیة والبدیهي.