مصطفى النعمان
أخيراً أتيحت لي فرصة زيارة قصيرة تمنيت لو طالت إلى قريتنا الصغيرة ذبحان التي ولد فيها والداي، والواقعة جنوب مدينة تعز، وكانت مناسبة الزيارة دعوة لحضور جانب من زيارة رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، وهي الأولى منذ توليه منصبه في السابع من أبريل (نيسان) 2022، وبعيداً من الجانب الرسمي الذي لم يكن ذا أهمية بالنسبة إلي، فقد حرصت على قضاء أيام قليلة جداً لزيارة أهلي هناك بعد انقطاع استمر 20 عاماً.
ليست مبالغة القول إن تعز هي روح الجمهورية والثورة والوحدة الوطنية والاجتماعية شمالاً وجنوباً، وليس في ذلك ما ينتقص من أي مدينة يمنية، ولكن محاولة إنكار ذلك ليس أكثر من محاولة ساذجة، وقدرها أنها صارت كما يقول إخواننا المصريون "ملطشة"، وتحميلها كل الإخفاقات التي حدثت في جنوب اليمن وشماله.
وأتاح لي التخلف عن الموكب الرسمي والسير منفرداً عبر الطرق الوعرة أن مررت على مناطق في الحجرية لم أعرفها من قبل، وهي التي تشكل أكبر تجمع سكاني في محافظة تعز، ومنها ظهر كثير من القيادات السياسية التي شكلت حاضر اليمن، وكذلك معظم التكنوقراط الذين أسهموا في جهود بناء المؤسسات الحكومية، ومنها أيضاً معظم البيوتات التجارية اليمنية التي تجاوزت أعمالها حدود البلاد، وفيها كثير من أصحاب الحرف اليدوية والفنون بأنواعها، وكذلك الأطباء والمهندسين.
وبطبيعة الحال فإن الحضور في المواكب الرسمية يعني أن تمر على الناس والواقع بسرعة فائقة ولكنك لا تراهم ولا تراه، ولا تفهم مشاعرهم ولا تدرك حقيقته، لأن النزول إلى الأرض ولقاء الناس والاستماع المباشر إليهم هو الذي يقدم الحقيقية المجردة التي تحجبها الصور والشعارات، وهو الذي يمنح المسؤول فرصة ذهبية للاقتراب منه ومنهم وتبادل الأفكار معهم.
أن يزور مسؤول أية بقعة في بلاده أمر طبيعي وواجب إنساني ووطني، ولذا فإن إضفاء الهالة والتاريخية والاستثنائية عليها يمثل إساءة مباشرة له، لأنها تعني أنه مقصر ولا يقوم بما يجب عليه، وقد لمست مباشرة مشاعر الفرح بزيارة المسؤول الأول في السلطة، وفي الوقت نفسه استمعت إلى تساؤلات عما إذا كانت الأولى وستليها زيارات متكررة، خصوصاً وأنه أحد أبنائها.
كانت فرصة ثمينة أن تخلفت عن الموكب الرسمي والابتعاد من الضجيج فانشغلت في لقاءات عدة واجهتني خلالها أسئلة كثيرة عما يمكن حدوثه خلال الأشهر والأعوام المقبلة وعن خريطة الطريق، وكان السؤال الأكثر تردداً هل يشعر من في قمة السلطة بما يدور في أذهان سكان القرى والمدن؟ ولماذا لا يستقرون بينهم ليعلموا مصاعب الناس وأوجاعهم؟
ما من شك في أن الأعوام الـ10 الماضية قد أفرزت أحوالاً غير مسبوقة انعكست على كل المواطنين في المناطق اليمنية جنوباً وشمالاً، ومن العسير الحديث عن تميز منطقة عن أخرى، فقد تساوت جميعها في مقدار البؤس الذي يعانيه سكانها، وإذا كان كل التركيز السياسي منصباً على مدينة عدن باعتبارها عاصمة "موقتة" يجب الاهتمام بها، وعلى وجه الخصوص تحسين الخدمات العامة وتوحيد الأجهزة الأمنية فيها، فالواقع أن مدناً كثيرة في اليمن لم تلق أي اهتمام ولا يكاد أحد يذكرها إلا في إطار معالجة القضايا الأمنية أو عند الحديث على مواجهات دامية بين أبنائها.
لقد لمست ارتباكاً كبيراً عند قيادات حزبية تحدثت إليها وتركزت حول "خريطة الطريق"، وقلقاً حول كيفية التعامل مع حال الغموض الذي يكتنف أعمال مجلس القيادة الرئاسي، وتساؤلات عن إمكان تفعيل نشاطه والبحث عن انسجام بين أعضائه وبينه وبين الحكومة والمؤسسات الدستورية القائمة.
بعد كل لقاء شعرت بأن الجميع مقتنع بأن العقبة التي تقف أمام إيجاد صيغة جامعة في الصف المناهض لجماعة الحوثي تكمن في المخزون الهائل للمشاريع الذاتية التي ينشغل بها كثير من كبار المسؤولين، ومعظمها تتناقض كلية مع أهداف الوطنية العامة حتى عند الذين يرفعون شعارات الدعوة إلى الانفصال.
وفي ما يخص "خريطة الطريق" فقد بينت وجهة نظري بأن الحديث عن مسارات سياسية لا يعدو كونه رغبة وربما وهماً كبيراً لا يوجد على الأرض مما يسهم في تحويله إلى واقع، لأن السلطة في صنعاء غير مكترثة بالأمر ولا تبدي أية جدية تساعد في إيجاد حال من الاسترخاء النفسي الذي بدوره يمكن أن يسهم في وضع المجتمع على بداية طريق بناء الثقة بين المتحاربين، وكذلك فإن "الشرعية" غير قادرة على بناء موقف موحد تجاه الأمر.
في الوقت نفسه فإن الأوضاع في مدينة عدن بالذات توجب على المجلس الانتقالي، بحكم نفوذه داخلها، أن يتولى مسؤولية توحيد الأجهزة الأمنية، لأنه من دون ذلك ستبقى الأوضاع مقلقة فلا تساعد في خلق بيئة جاذبة للاستثمار الحقيقي والمستدام، عوضاً عن تزايد صراعات الاستيلاء على الأراضي وبناء المدن السكنية التي لا يستطيع معظم المواطنين شراءها أو استئجارها.
وهنا يجب على الجميع إدراك أن الدعوة إلى أن تصبح عدن مدينة جاذبة للجميع لا يمكن أن تتحقق في ظل الفوضى التي تحيط بها، وأي نشاط تجاري استثماري يساعد في خلق فرص عمل للناس يجب أن يكون محفزاً للتعاون بين المجلس الانتقالي والأجهزة الحكومية التابعة للشرعية، ومن دون ذلك سنظل جميعاً ندور في حلقات مفرغة.