باشلار من سرير المرض إلى ثورة فلسفية
26-حزيران-2023
إبراهيم العريس
"ذات مرة خلال صباي المبكر كنت مريضاً في سريري، فما كان من والدي إلا أن أشعل ناراً في غرفتي. ولقد حرص حينها على وضع جذوع الأشجار على النار، في انزلاق حفنة من نجارة بين الحشائش. إن تفويت الضوء سيكون بمثابة حماقة فاضحة. لم أتخيل أبداً أن والدي يمكن أن يكون له نظير في هذه الوظيفة التي لم يفوضها أبداً لأي شخص في الحقيقة، وأنا من ناحيتي لا أعتقد أنني أشعلت ناراً حتى بلغت الـ18 من عمري. فقط عندما كنت أعيش في عزلة بمفردي وأضطر إلى ذلك كنت أتقن توضيب موقدتي".
عبارات تمكن من خلالها الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار أن يدخل ذاته في ذلك الموضوع الفسيح الذي جعله متناً لكتاب نشره عام 1938 ليعتبر الخطوة الأولى في سلسلة كتب متعددة الأجزاء متنوعة الاهتمام ربط فيها بين الفلسفة والإبداع، ولكن من طريق العلم بصورة عامة ومن طريق التحليل النفسي بصورة خاصة.
ربما لا نكون في حاجة هنا إلى القول إن مجموعة الكتب هذه ستكون ولعقود طويلة من الزمن من أكثر الكتب الفلسفية الفرنسية شعبية في القرن الـ20. وربما الكتب التي لا بد أن يقرأها كل أديب مبدع حتى وإن كان لا يعبأ بالفلسفة.

تاريخ النار
لعل الأشهر بين هذه الكتب "التحليل النفسي للنار" الذي سجل فاتحتها وفاتحة اهتمام هذا المؤلف بالعمليات الإبداعية ودلالاتها ما فتح آفاقاً فلسفية جديدة لعدد كبير من أدباء بمن فيهم كبار مرموقون، وجدوا فجأة اختياراتهم تلتقي بالبعد الفلسفي والسيكولوجي والتاريخي في آن معاً، بعد أن كان هذا البعد المثلث مجرد "ترف فكري" بالنسبة إلى معظمهم.
هنا عرف باشلار كيف يجدد في استلهامه تجديدات التحليل النفسي الفرويدية، ولكن من طريق تنويعات كارل غوستاف يونغ، بالتالي كيف يرسم بلغة بسيطة وعميقة في الآن عينه، تاريخاً للنار ودورها في الحياة الفكرية منذ بروميثيوس (سارق النار في فعل إنساني أول) الذي يمثل احترام المجتمع للنار إلى درجة منع الطفل من الاقتراب منها، مروراً بما يسمى "عقدة امبدوقلس" في مجال التعامل الاجتماعي مع النار وهي عقدة يفيدنا الكاتب أنها كانت أول من زاوج بين النار واللهب المدمر "كرمزين ماديين للعلاقة بين الموت والحياة". وهو ما سيتفاقم لدى نوفاليس الذي أبدى تعلقه بالبحث في جذور علاقة الإنسان بالنار وهو ما يقود باشلار إلى بحث بالغ العمق والطرافة حول العلاقة بين النار والجنس، معتبراً النار مجرد صورة للفعل والنشاط الجنسيين.
يفيدنا باشلار هنا بأن هذا السياق التأريخي كان هو ما فرض على الفكر مفاهيم خطأ للنار "شغلت العلماء حتى القرن الـ19". وهو منطق يختمه باشلار بالحديث تباعاً عن الماء ثم الخمر في علاقتهما بالنار بوصف هذه الأخيرة عنصراً تطهيرياً، أي رمزاً لفعل التطهير بالمعنيين السيكولوجي والفلسفي في آن معاً. وعلى هذا التفسير يختم باشلار كتابه في انفتاح على مزيد من العودة في كتب تالية له إلى مواضيع مشابهة تنتمي عموماً إلى نمط خاص من الفينومينولوجيا (علم الظواهر). وهو ما نفذه بالفعل في نصف دزينة من كتب تميزت بتجديداتها وجاذبيتها ولكن كذلك بلغتها الجزلة التي رآها كاتبو سيرة باشلار نوعاً من الانزياح من لغة العلم التقنية الصارمة إلى لغة الإبداع التي تكاد تكون شاعرية خالصة.

فيلسوف عصامي
ومن هنا ربما كان الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، من أحق المفكرين بأن نستعير له الصفة التي كانت تطلق على فيلسوفنا العربي الكبير أبي حيان التوحيدي، وهي أنه "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء". فهو في الحقيقة يكاد يكون أكثر الفلاسفة شعبية في صفوف الأدباء.
ومن المعروف أن نظريات باشلار الفلسفية التي تناولت الطبيعة والإبداع الأدبي والفني والتحليل النفسي قد أثرت على عديد منهم. ومن هنا فما منعنا من القول إنه كان الأكبر بين الفلاسفة الفرنسيين في بدايات القرن الـ20 هو وجود هنري برغسون. فلم يكن غريباً إذن أن تختاره أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية لعضويتها، وأن يمنح الجائزة الكبرى القومية للآداب قبل عام من رحيله.
لقد حقق باشلار خلال حياته، ثم بعد موته خصوصاً، مجداً فكرياً كبيراً، وأربى تراثه الفلسفي والفكري بصورة عامة على عشرات الكتب التي قرئت وترجمت على نطاق واسع. ومع هذا كان باشلار عصامياً، تحدر من أسرة مكافحة، حيث كان أبوه إسكافياً معدماً.

عمل نهاري وثقافة مسائية
ولد غاستون باشلار في عام 1884 وتلقى دراسة ابتدائية عادية قبل أن يلتحق بالجامعة منتسباً، حيث راح يقوم بشتى الأعمال والوظائف خلال النهار ويثقف نفسه عند المساء. ولقد مكنه هذا النشاط الاستثنائي من أن يحوز على الإجازة في الرياضيات في عام 1922. وهو بعد ذلك انصرف إلى دراسة الفلسفة وحصل على الدكتوراه في الآداب في 1927، العام نفسه الذي أصدر فيه كتابه "دراسة في المعرفة المقاربة"، وهو كتاب درس فيه مسألة المعرفة، بوصفها ذات مهمة محددة تكمن في "الاختيار والتدقيق والاستبصار".
وعلى الفور تنبه الباحثون إلى أهمية هذا المفكر الذي يسير على عكس التيار الأكاديمي السائد، لذلك حين عين في عام 1930 أستاذاً للفلسفة كبداية لعمله الجامعي، كان قد أضحى معروفاً لدى الأوساط الفكرية، وكانت أفكاره قد بدأت تلقى رواجاً واهتماماً. وطبعاً بعد ذلك بكثير كتب عنه لوي ألتوسير قائلاً "لا يريد باشلار لفلسفة العلوم أن تكون مجرد تدخل فلسفي في العلم. وهو في هذا يعارض جميع الفلسفات التقليدية التي كانت سائدة وكانت تجعل الهدف من تأملها في العلم احتواء النتائج العلمية لصالح المذاهب الفلسفية، واستغلال النتائج العملية، بالتالي، لصالح أهداف تبريرية تخرج عن إطار الممارسة العلمية".

كتب ومناقشات
قبل ذلك، وقبل أن يعترف لباشلار بهذه المكانة، كان عليه أن يصدر مزيداً من الكتب وأن يثير مزيداً من المناقشات، وأن ينوع اهتماماته، من الدراسة الأركيولوجية (الأثرية) والتحليلية النفسية للفكر العلمي في تطوره (في كتابه محاولة في التصنيف) إلى كتابته حول فلسفة العلوم وتاريخها في "تكوين الروح العلمي: محاولة في التحليل النفسي للروح الموضوعية"، ثم في "الروح العلمية الجديدة" و"الإيجابية العقلانية في الطبيعيات المعاصرة".
وعلى رغم أهمية بحوث باشلار في تاريخ العلوم وفلسفتها كما في قضايا الابستمولوجيا (نظرية المعرفة)، فإن الأشهر بين كتبه تظل تلك الكتب "الخفيفة" التي تحمل عناوين مثل "التحليل النفسي للنار" و"الماء والأحلام" و"الهواء والأحلام" و"الأرض وأحلام الإرادة" و"الأرض وأحلام السكون"، وكلها وضعها بين 1938 و1948، ونالت شعبية كبيرة ومارست، علاوة على المحاضرات التي كان يلقيها في السوربون خلال تلك الفترة نفسها، تأثيراً كبيراً تعدى إطار الحلقات الجامعية والأكاديمية.
مهما يكن فإن بإمكاننا أن نقول عن باشلار إنه بعلمه الواسع، وموضوعيته الصارمة، وعمق تحليله، وإخلاصه في البحث الدائم عن الحقيقة، تمكن من أن يجعل لنفسه مكانة شبه مجمع عليها في الفكر الفرنسي الحديث. وهذا ما جعل مفكراً مثل روجيه غارودي يكتب عنه قائلاً "في زمن كان فيه التيار الأقوى بين تيارات الفلسفة الفرنسية المعاصرة لا يكف عن المطالبة برفض العلم، كان الفضل الأكبر لباشلار يكمن في استمراره بالتمسك من دون هوادة بالمأثور العقلاني، متتبعاً لتطور العلم من كثب، ولسان حاله الدائم يقول إن تاريخ العلوم هو تاريخ هزيمة كل مفكر لا عقلاني".
ونذكر أن باشلار ترك كرسيه في السوربون في عام 1955، وكان في أواسط الأربعينيات قد عرف كيف يجتذب إلى محاضراته هناك كتاباً من أمثال ايلويار وفرينو وغيلفيك وكوينو. وكان من المعروف عنه أنه كان يستيقظ عند الخامسة من صباح كل يوم ليبدأ العمل من فوره. وهو كان يعيد النظر في كتبه على الدوام ويعدلها في الطبعات اللاحقة، كما هي حال كتابه "التحليل النفسي للنار" الذي وضع له صياغة نهائية عام موته (1962).
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech