بحثا عن صورة المثقف الجديد في العصر الافتراضي
5-شباط-2024

جمال نعيم
ليس مصطلح المثقف (l’intellectuel) قديم العهد، بل حديث، وهو يعود تحديداً إلى نهاية القرن الـ19 مع إميل زولا، وإن كان يمكن إرجاعه إلى فولتير قبيل الثورة الفرنسية. المثقف مناضل يسعى دائماً إلى تغيير الأوضاع السائدة نحو الأفضل. وغالباً ما يكون هذا السعي إلى التغيير مباشراً عبر التعاطي في الشأن العام وفي السياسة. ما يحرك المثقف هو إرادة التغيير هو إرادة العمل.
المثقف بهذا المعنى ملتزم ومعارض. ملتزم بمشروع سياسي وثقافي يتضمن قيماً وتطلعات، إذ يحاول المثقف أن يكون المدافع الأول عن هذه القيم والتطلعات. ومعارض دائم وصلب للسلطات القائمة التي غالباً ما تنزع نحو الطغيان وتجاوز حدودها. المثقف بطبيعته ملتزم ومعارض، لكن هذا الالتزام وهذه المعارضة يختلفان من مثقف إلى آخر. فيكون لدينا أنواع مختلفة من المثقفين. من هنا فإن المثقف مناضل ونهضوي دائماً، وينهم بسؤال (ما العمل؟)، أي بسؤال ما العمل لننهض بالمجتمع ونسير به نحو الأفضل؟ لذا، نقول إن المثقف يحمل مشروعاً تغييرياً نحو الأفضل.
ولو عدنا إلى معاجم اللغة العربية لوجدنا أن المثقف هو من تعلم وحاز ثقافة واسعة. هو أكثر من مجرد متعلم ذي شهادة متخصصة في علم من العلوم. فالمثقف أوسع ثقافة وأكثر اطلاعاً. وهذا ما يمكن الاصطلاح على تسميته المثقف التقليدي، لكن ولادة المثقف الحديث أو المثقف بالمعنى الحديث اقترنت بحدث آخر، بشرط آخر، حيث لم تعد الثقافة الواسعة والاطلاع الكبير شرطين كافيين لولادة المثقف، بل لا بد من أمر آخر معهما، ألا وهو التدخل في الشأن العام وعدم الاكتفاء بممارسة الثقافة بالمعنى الحصري والضيق للكلمة.
إذاً، إن أن لفظ المثقف يثير التباساً بالعربية، فقد يظن القارئ للوهلة الأولى أنه من يتحلى بالثقافة ومن يعرف أكثر، أو من يكون متمكناً من المعرفة والثقافة، ويكون بذلك قريباً من العلامة. فالأديب والمفكر والمؤرخ مثلاً هم مثقفون في حين أن الأستاذ الجامعي في مادة علمية مثلاً، يبقى أستاذاً جامعياً، ولا يصبح مثقفاً إلا إذا تعاطى في الفكر والأدب والسياسة، لكن لا الأستاذ الجامعي ولا الأديب ولا المفكر ولا المؤرخ هم مثقفون بما هم كذلك، أي إذا لم يصيروا ملتزمين ومعارضين. هم، إذا شئنا، مثقفون تقليديون.
ولادة المثقف الحديث
تاريخياً، يمكن القول إن ولادة المثقف بدأت مع الفيلسوف والأديب الفرنسي فولتير. فهو أول مثقف بالمعنى المتداول للكلمة، لا لأنه أديب ومفكر، بل لأنه استعمل أدبه وفكره وشهرته وثقله الأدبي ونفوذه المعنوي في سبيل قضية اجتماعية لها علاقة بالعدالة والتسامح في المجتمع. وكان من الممكن لفولتير أو لغيره أن يبقى أديباً أو مفكراً أو مؤرخاً أو حتى فيلسوفاً من دون أن يصير مثقفاً، وذلك إذا لم يتدخل في ما لا يعنيه وتكون لديه الجرأة لقول الحقيقة، وإذا لم يحمل مشروعاً تغييرياً للمجتمع.
هذا المثقف الذي بدأ مع فولتير نجده مرة أخرى بصورة واضحة وجلية مع إميل زولا. ويبلغ الأوج مع جان بول سارتر. ومن ثم يموت لا سيما بعد الثورة الطلابية في عام 1968.
في أنواع المثقفين
مع فولتير (1694-1778) مع قضية كالاس التي سميت قضية فولتير، بدأت ولادة المثقف التي ستتكرس بصورة نهائية مع الكاتب الفرنسي إميل زولا (1840-1902) في قضية دريفوس الشهيرة.
ملخص قضية كالاس أن تاجراً بروتستانتياً كان يعيش في بيئة كاثوليكية ادعى بعدما وجد ابنه منتحراً أن القضية تتعلق بجريمة قتل خوفاً من إقدام الكاثوليك على إحراق ابنه بسبب مخالفته تعاليم المسيح بانتحاره، لكن برلمان تولوز حاكم الأب واتهمه بأنه هو الذي قتل ابنه منعاً لانتقاله إلى الكاثوليكية، فأعدم الأب ومصادرة أملاكه، لكن عائلته لم تستسلم وأقنعت فولتير بالدفاع عنها، فكتب كتابه "محاولة في التسامح"، وأعاد فتح ملف القضية، حيث أعلن برلمان باريس من جديد براءة المتهم وأوصى الملك بدفع تعويض لذويه عما لحق بالأب من ظلم ديني. هذه القضية صارت تقليداً عند مثقفي فرنسا الذين باتوا يمثلون ضمير الأمة الفرنسية، لا بل ضمير أوروبا، ومن ورائها ضمير الإنسانية جمعاء.
وفي نهاية القرن الـ19، دانت إحدى المحاكم الفرنسية ضابطاً فرنسياً يهودياً بالتجسس لصالح ألمانيا، فتمت إهانته أمام الملأ ونفيه إلى جزيرة نائية. وانبرى للدفاع عنه إميل زولا الذي كان ككاتب كبير، ملتزماً بالقضايا الكونية. فوجه رسالة إلى رئيس الجمهورية بتاريخ 12 (كانون الثاني) 1898، بعنوان "إني أتهم..."، ومما جاء فيها "ولأنهم تجرأوا، فإنني سأتجرأ، أنا الحقيقة سأقولها، لأنني وعدت بقولها إذا تخلى القضاء، على رغم معرفته بها، عن قولها كاملة غير منقوصة. فواجبي يكمن في أن أتكلم. إنني لا أريد أن أكون متواطئاً، وإلا فإن لياليّ ستصبح مهووسة بشبح البريء الذي يقف هناك، وسط أفظع أشكال العذاب، عقوبة عن جريمة لم يرتكبها".
وقد نجح زولا في الدفاع عن الضابط الفرنسي دريفوس، وتم إعلان براءته. ومن وقتها صار المثقف ضمير الإنسانية الذي يتدخل في ما لا يعنيه، فيدافع عن قيم العدالة والمساواة والحرية، لكنه لا يتحول إلى رجل سياسة، إذ يبقى في موقعه كأديب أو مفكر، يجد من حقه، لا بل من واجبه، أن يستعمل مهابته وسلطته الأدبية ليرفع الظلم عن المظلومين. فارس العدالة، ضمير الإنسانية، المدافع عن البشرية جمعاء وعن القيم الإنسانية اليونيفرسالية كالعدالة والحرية والمساواة. هذا هو المثقف الكلي الذي كان سارتر أكبر ممثل له.
هذا المثقف نفسه الذي كان يمثل ضمير الإنسانية، والذي كان يقبض على الحقيقة ويقولها للناس، قد مات بعد ثورة الطلاب في عام 1968، ونشأ مكانه المثقف النوعي أو الخصوصي بحسب تعبير فوكو الذي أعلن ولادته بعدما رفع العلماء النوويون الصوت عالياً انطلاقاً من اختصاصهم بالذات ليحذروا الناس من أخطار السلاح النووي. وبالإمكان إعطاء أمثلة أخرى، كأن نعتبر أن اختصاصية التغذية يجب أن ترفع الصوت عالياً إذا ما تبين لها أن هناك خطراً على السلامة العامة للمواطنين. هكذا، فإن المثقف الخصوصي لا يدافع عن العدالة والحرية والمساواة كقيم متعالية، ولا يتعاطى في الشأن العام بوصفه القابض على الحقيقة وبوصفه ضمير الإنسانية، بل مما وجده في اختصاصه بالذات ويشكل قضية يجب الإعلان عنها أمام الرأي العام.
العضوي أو المنتمي
أما المثقف العضوي فهو المثقف المنتمي أو الثوري الذي ينطق باسم جماعة معينة كحزب معين أو طبقة معينة، ويتبنى أفكارها ويلتزم مشروعها للتغيير، لكنه يتمايز من أفرادها. والمثقف العضوي يشبه المثقف الديني، كما كان حال مرتضى مطهري، الذي ينطق باسم جماعته ويخترع الوسائل النظرية للتغيير. إذاً، المثقف لا يمثل ضمير الإنسانية، ولا يتدخل في كل ما لا يعنيه، بل في ما يخص قضايا جماعته. وقد قسم غرامشي أجهزة الدولة إلى أجهزة أيديولوجية كالمدرسة والإعلام والجامعة، وأجهزة قمعية كالشرطة والجيش.
أما المثقف الهامشي فهو مثقف لا مُنتمٍ، يمارس هامشيته لتصبح الحياة أفضل أو يمكن أن تعاش. وهو لا ينتمي إلى أي جماعة ولا أي حزب ويمارس ثقافته كما لو كان في مدينته الأمثلية أو المثالية، مع أنه بممارسته هذه يلتزم ويعارض ولو بصورة غير مباشرة. وهناك المثقف كوسيط فاعل أو كعميل معرفي كما أعلنه علي حرب عندما تكلم على أوهام المثقفين الخمسة: أي وهم النخبة ووهم الحرية ووهم الهوية ووهم المطابقة ووهم الحداثة. والدور الرئيس لهذا المثقف الذي تخلى عن رسوليته ونخبويته وطلبعيته، هو خلق لغات أفهومية ومناخات حوارية تسمح ببلورة قيم مشتركة تتيح اللقاء بين فرد وآخر، بين حزب وآخر.
​إذا اتفقنا أن المثقف ليس مجرد العلامة وليس الأديب أو المفكر أو المؤرخ أو الفيلسوف أو الفنان، بل أي واحد من هؤلاء، بل وأي إنسان عادي لديه فكرة عن التغيير ويطالب به ويتدخل في ما لا يعنيه بوصفه عضواً في المدينة من حقه أن يمارس حقوقه كاملة لأن ما يحصل في المدينة وحتى ما يحصل في العالم ينعكس عليه، فإننا نرى أن هناك نوعاً جديداً من المثقفين أقل ادعاء هذه المرة يولد حالياً من رحم وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ما ميزات هذا النوع الجديد الذي نصطلح على تسميته المثقف الافتراضي؟
ميزات عدة
​بإمكاننا أن نحدد له ميزات عدة:
1- إنه ملتزم ومعارض، لكنه ملتزم ببرنامجه الخاص وليس ببرنامج حزب معين أو جماعة معينة أو طبقة معينة أو طائفة معينة. لم يعد مثقفاً عضوياً، بل صار فريداً، هو معارض للسلطة كما للأحزاب التي تتناوب على السلطة، بل حتى المعارضة نفسها لا تسلم من نقده القاسي.
2- إنه مثقف لا مُنتمٍ، مع أن عدم انتمائه ليس على شاكلة المثقف الهامشي الذي لا يتوجه مباشرة إلى الرأي العام. فالانتماء إلى جماعة معينة ليس شرطاً ضرورياً من شروط المثقف الافتراضي. قد يعارض ويجابه وحيداً، بل قد يعارض باسم مستعار ومزيف.
3- ليس شرطاً فيه أن يكون أديباً أو مفكراً أو مؤرخاً أو حتى عالماً أو فيلسوفاً مشهوراً وذا نفوذ وهيبة على طريقة فولتير وزولا وسارتر، وإن كان يمكنه ذلك، فقد يكون إنساناً عادياً، لكنه يحمل هم التغيير بعد أن تواطأ الجميع مع السلطان وأصبحوا من أجهزته الأيديولوجية. المثقف الافتراضي لم يعد ذلك المثقف ذا الثقافة الواسعة، لم يعد مثقفاً تقليدياً.
4- ليس لديه أوهام كبيرة. فهو لا يدعي امتلاك الحقيقة، ولا ينطق باسم مبادئ كلية عامة جداً، كما لا يريد تغيير العالم بأسره. هو صاحب موقف قد يكون مؤثراً جداً بفعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وهيمنتها على الكوكب، لكنه يبقى يعيش من دون أوهام. ويعمل من أجل قضايا غالباً ما تكون صغيرة وجزئية.
5- يتوجه هذا المثقف الافتراضي إلى الرأي العام بصورة شبه يومية، ويتناول موضوعات شديدة التنوع.
6- لا يشكل طبقة أو جماعة يمكن السيطرة عليها بسهولة. هو مثقف مترحل، وليس بالضرورة أن يعيش في البلد الذي يوجه نقداً قاسياً إلى سلطاته.
7- ليس لدى هؤلاء المثقفين الافتراضيين هرمية معينة. فهم فئة عرضانية، إذا جاز التعبير، تشتغل في كل الاتجاهات، وليس لديها مركز تنوير واحد.
8- يستفيد المثقف الافتراضي من الثورة التكنولوجية، وهو لا يعيش من دونها، إذ بوساطتها صار له منبر خاص ودائم، وهذا يعني أن ولادة هذا المثقف كانت غير ممكنة قبل ثورة التكنولوجيا.
9- ينشط هذا المثقف بعد أن تقاعس الجميع، بل وينشط أكثر من غيره، إذ بإمكانه أن يقول كلمته على مدار الساعة.
10- يعمل من أجل التنوير، لكنه متواضع في تنويريته، وهو يعمل بصورة موضوعية، فلا يمتد نشاطه، في الأقل حالياً، ليشمل الكرة الأرضية بأكملها. ​
هذه أهم ميزات هذا المثقف الجديد، ويمكن إضافة ميزات أخرى، لكن في كل الأحوال، سيجد التغيير حكماً من يطالب به مهما قوي السلطان، ومهما توحشت الرأسمالية، ومهما كانت أخطار التغيير جسيمة.

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech