بغداد - العالم
في روايته "تسوكورو العديم اللون وسنوات حجه" الصادرة حديثاً عن دار الآداب في ترجمة عربية أنجزها أحمد حسن المعيني، يذكرنا هاروكي موراكامي للوهلة الأولى برواية "العطر" لباتريك زوسكيند الروائي الألماني الذي عاش في باريس وكتب روايته هذه. فبطل زوسكيند كان "عديم الرائحة" يقتل العذارى ويسلخ جلودهن ويقطرها ليصنع منها عطراً لنفسه فيمكنه أن يتخلص من لعنته هذه، لكن تسوكورو تازاكي ليس كذلك، إذ يرتبط انعدام اللون لديه باسمه الذي لا يشير إلى أي لون، بخلاف أصدقاء شكل معهم مجموعة من خمسة أصدقاء في بلدة "ناغويا" البعيدة من طوكيو، اشتركوا صدفة في برنامج تطوعي تحت إشراف الكنيسة الكاثوليكية لتدريس طلاب في المرحلة الابتدائية لا يرغبون في الدراسة. منذ تلك الصدفة ارتبطوا معاً بصداقة حميمة لا يدخلون إليها أحد. كانوا ثلاثة فتيان وفتاتين: أكا، وأو، وشيرو، وكورو، وهو تسوكورو... ومن قبيل الصدفة أنهم جميعاً عدا تسوكورو يشتركون في أمر صغير، فأسماء عائلاتهم تشير إلى لون من الألوان. الفتى الأول ابن أكاماتسو (الصنوبر الأحمر)، وابن أومي (البحر الأزرق)، والفتاة الأولى ابنة شيران (الجذر الأبيض)، والأخرى ابنة كورونو (الحقل الأسود). تازاكي هو الاسم الوحيد الذي لا يشير إلى أي لون من الألوان. ومنذ البداية شعر تسوكورو أنه منبوذ. مع أنه يدرك أن لا علاقة بين اللون في الاسم وشخصية صاحبه، لكن الأمر كان يصيبه بخيبة أمل، بل بالألم أيضاً. وسرعان ما بدأ الأربعة يتنادون بالألقاب. فهذا أكا (أحمر)، وذاك أو (أزرق)، وهذه شيرو (بيضاء)، وتلك كورور (سوداء). هو الوحيد الذي ظل كما كان: تسوكورو. وكان يردد في نفسه "لو أن لي لوناً في اسمي أنا أيضاً، لأصبح كل شيء على أتم وجه".
ما لبثت السبل أن تفرقت بهؤلاء الأصدقاء حين قاطعوا تسوكورو بصورة مفاجئة وطلبوا منه ألا يتواصل معهم من غير أي توضيح للسبب. فما كان من تسوكورو إلا أن يبتعد من غير مساءلة وهو في حيرة من أمره. لا يلبث أن يغادر بلدته إلى طوكيو، حيث كان يدرس في الجامعة هناك ليتخصص في هندسة بناء القطارات ويتتلمذ على يد أستاذ خبير في هذا التخصص الدقيق. هناك يعيش وحيداً في شقة صغيرة للعائلة ولا يقيم صداقات بعد صدمته من نبذ أصدقاء الدراسة له في بلدته البعيدة. وهو الذي كان يتصف بالهدوء والغموض ويغلب عليه الخجل أساساً. تدفعه الصدمة في غياهب اكتئاب حاد دام لستة أشهر، بدءا من يوليو (تموز) حين كان يزور بلدته ناغويا في الإجازة الصيفية، حيث كان يلتقي جماعة أصدقائه الذين مكثوا في البلدة وانضموا لجامعتها. وكان حين وصوله إلى البلدة يمضي إجازته الصيفية مع أهله وأصدقائه كما جرت العادة في سنته الجامعية الأولى والأعياد، ويتصل بهم فور وصوله. لم يفهم لماذا توقف أصدقاؤه عن الإجابة عن اتصالاته. ارتبطوا بهذه الصداقة كمجموعة منذ الدراسة الثانوية، وإن اختلفت شخصياتهم ومهاراتهم واهتماماتهم الشخصية، لكنهم كانوا أصدقاء جيدين.
لم يفهم تسوكورو الطلب المفاجئ الذي حدا بأصدقائه لأن يقولوا له إنهم لا يرغبون بالتحدث إليه أو رؤيته. لم تكن الصدمة، بل الحيرة ربما التي جعلته يعيش على حافة هاوية ويغرق في مشاعر الموت. يعيش كأنه ميت حي. يسير كما لو كان نائماً.
تمر سنوات عدة قبل أن يقرر السفر إلى بلدته بتشجيع من صديقته/ حبيبته سارة، لمساءلة أصدقائه عن سبب مقاطعتهم له من غير أن يقدموا له أي تبرير، إذ رأت سارة أن عدم معرفته سبب قطعهم للعلاقة أو حتى محاولة تقصي الأمر، هو مما يشكل عائقاً عاطفياً يمنعه من المضي قدماً في حياته العاطفية وعلاقاته الإنسانية، وحتى الجنسية.
تسوكورو الذي تساوره الشكوك حول نفسه في حب مثلي مع صديقه هايدا، وأحلام هذيان جنسي مع صديقته شيرو - وهي أحد الأصدقاء الخمسة، يدخل في دوامة من الغموض والحيرة، إن كان ما حدث حقيقياً أم هذياناً أو أضغاث أحلام. يستمع إلى نصيحة سارة ويقابل أصدقاءه القدامى ليجدهم متفرقين. كل اختط لحياته مساراً، لكن الصدمة المؤلمة حين يعلم بموت "شيرو" في ظروف غامضة بعد وقوعها في اضطراب نفسي شديد تراوحت ما بين الانتحار أو القتل. وبعض من تلميحات يسمعها عن اتهام "شيرو" لتسوكورو باغتصابها، وخضوعهم جميعاً لابتزازها العاطفي لمقاطعة تسوكورو. حتى كاد يشكك تسوكورو بنفسه بسبب الحلم الذي ضاجع فيه شيرو، ويشعر بالإثم.
ينتهي المطاف بتسوكورو في فنلندا، حيث تعيش "كورو" مع زوجها الفنلندي وبنتيها. هنالك تخبره "كورو" بالحقائق بالتفصيل، والتي حدت بالمجموعة إلى مقاطعته - ولو على مضض. فبسبب ادعاءات "شيرو"، على رغم عدم تصديق "كورو" لها، والآخرين، اضطروا إلى مقاطعته. هي ادعاءات ظلت معلقة كلغز حتى خاتمة الرواية، لكنه في الوقت ذاته اكتنفته مفاجآت من جميع الأصدقاء زادته حيرة، مع أنه هدر سنوات عدة من حياته بلا طائل وهو يعتقد أنه منبوذ.
جمع هاروكي موراكامي في روايته "تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه" ثيمات متعددة غاصت في العلاقات الإنسانية المتنوعة التي تدور حول الحب والجنس والصداقة والمثلية وبعض ما يكتنفها من ألغاز وغموض. تواترت جميعها وتداخلت في حبكة شيقة بدت سلسة ومبسطة ومعبرة بفضل الترجمة الراقية التي عودنا عليها أحمد حسن المعيني، وبنبرة هادئة طغت على فن السرد الروائي، واقتربت مما يشبه الحبكة البوليسية ممزوجة ببراعة التعبير عن عمق الشخوص وأزماتها. وإذ هي تحاكي الغموض المثير للتشويق، ولكن المفعم بالغرابة كعادة هاروكي موراكامي، لكنه في هذه الرواية يتخذ منحى أكثر واقعية إلا في ما تخللها من حكايات تتداخل فيه إحدى الشخصيات "ميدوريكاوا" (ومعناه النهر الأخضر) الذي يعزف أمام هايدا على آلة موسيقية تسمى "البيانة" في منتجع لعيون الماء الساخن في جبال أويتا في جنوب اليابان ذاته، الذي زاره والده حين أخذ إجازة من التدريس في الجامعة ليهيم على وجهه، مسافراً. وحين يعود يقول لهايدا إن تلك الفترة هي من أجمل أيام حياته. والآلة الموسيقية ذاتها التي كانت تتقن "شيرو" العزف عليها، بل وتدرب الطلاب تطوعياً عليها. وهو ما يشده إلى الحنين إلى تلك الأيام التي جمعته مع الأصدقاء الخمسة.
يصعب الإمساك بالثيمات جميعها إلا عند خاتمة الرواية، بل يصعب تفكيكها بعضها عن بعض. فهي شكلت بترابطها وتواتر أحداثها حبكة مشوقة أقرب إلى البوليسية، تتخللها تساؤلات حول النفس الإنسانية وكيف قد تنقلب حيوات العديدين رأساً على عقب بما يشبه العبث. فيعيشون تداعياتها باتجاهات مختلفة ومتنوعة كأحياء نيام، يصعب عليهم إدراك ما هم في خضمه إلا بعد أن يبددوا كثيراً من الأحلام أو يتركوا أسئلة محيرة معلقة، يهدرون فيها حياتهم، ويتركون الأوان للفوات من غير أن يفكروا بعواقب ندم محتمل.