بماذا يؤمن من لا يؤمن؟
21-آب-2022
أحمد عبد الحليم
صدر العام الماضي، عن منشورات المتوسط/ميلانو كتاب بعنوان "بماذا يؤمن من لا يؤمن"، وهو عبارة عن محادثات بين أومبرتو إِكو، وهو فيلسوف وروائي وناقد أدبي إيطالي، وبين كارلو ماريا مارتيني، وهو يسوعي إيطالي وكاردينال بِالكنيسة الكاثوليكية. هذه الرسائل نُشرت لأول مرّة عام 1996 في مجلة "liberal" الإيطالية.
تناولت الرسائل بينهما، عدة موضوعات أهمّها تقريب النقاش بين ما هو علماني وما هو ديني، ما يدور في فلك الاثنين من قيم وأخلاقيات وأطروحات متنوعة، كالحرية والتاريخ والماورائيات، كذلك سؤال إلى أي مرجع تنتمي الأخلاق. اتسمّ الحوار بينهُما باللا استقطاب المُتعارف عليه دائما، بين ما هو ديني وما هو علماني، إذ أخذ النقاش بينهُما تفكيرا عميقا، واحتراما مُتبادلا، وطرح أسئلة وإجابات قوية.
كانت أولى الموضوعات المطروحة من قِبل إِكو، عن سؤال نهاية التاريخ، افتراضا أن هذا التاريخ مُتمثلا في هذه الحياة الدُنيا، يطرح إِكو أن العلمانية بما أنّها ترفض أو تُشكك فيما بعد الدنيا، فهي ترفض فكرة انتهاء هذا التاريخ، أي بداية الموت، أو فكرتَه من الأساس، بما أنّه يمثل نهاية السعادة التي يُحققها الإنسان في الدنيا.
حول ذلك يناقشه مارتيني في رسالته التي عنونها بـ "إن الرجاء يصنع من النهاية غَرضا"، ويصف التاريخ بالرحلة، التي تسير في اتجاه غاية تتجاوز هذا التاريخ. إذ عند مارتيني، التاريخ له معنى، واتجاه ومسار، وليس تراكم أحداث عبثية، وهذا المعنى ليس كامنا في التاريخ، ولكنه يمتد إلى ما وراءه، ومن ثم هو ليس موضوعا للتفكير، ولكنه غرضًا للرجاء. كذلك يرى أن الحاضر يجب أن يكون له معنى، المعنى متمثلا في قيمة نهائية مُعترف بها ومُقدّرة. وبسبب هذا أيضا، ينظر الإنسان إلى أخطاء الماضي، ويتعلم منها، ساعيا إلى نفيها، حتى لا تكون عقبة أمامه في الحصول على القيمة النهائية، الماورائية بعد انتهاء هذه الدنيا.
يحاول إِكو في رسالة اُخرى، طرح نقاش طويل ومُعمّق حول سؤال، متى تبدأ الحياة الإنسانية؟ يحاول إِكو طرح قضية الإجهاض، إشكالياتها الأخلاقية، وهل هي بذلك تُنهي حياة إنسان، كان من المُفترض أن يأتي إلى الحياة. فَيتساءل حول من له الحق في إنهاء هذه الحياة، ومتى تبدأ الحياة الإنسانية بالضبط.
يرد عليه مارتيني، بعبارات كثيرة، كُلها تقدّس الحياة الإنسانية، التي هي حياة إلهية، بُثتْ في روح إنسان جديد، وليس من حق أحد أن يُنهي هذه الحياة، بل يجب على كل فرد أن يتحمل مسؤولية ممارساته، التي بفعلها يَقدُم إنسان جديد إلى هذه الحياة، وهذا كُله مَفاده الحفاظ على الحياة الإنسانية، بشكلها المُجرّد، وليس دفاعا عن الجنين، الذي يمثل بداية الحياة. ولأن في ظروف كثيرة، يُضحي الأطباء بالجنين من أجل حماية حياة المرأة/الأم. إذ هنا الحياة هي المُقدسة، بعيدا عن انتقاص أي حقٍ إنساني للآخرين.
في نهاية رسائلهما، يسأل هذه المرة مارتيني محاوره إِكو، عن أين يجد العلماني نور الأخلاق؟ يطرح مارتيني إشكالية مرجعية الأخلاق عند الإنسان. هل الأخلاق مصدرها الإله، أم الإنسان؟ يناقشه إِكو، فيما سمّاه "تولد الأخلاق عندما يدخل الآخر إلى المشهد". وهذا ما يؤكد عليه إكو، أن الأخلاق تولد عندما، تتجاوز قيمتها ذواتنا، شيء آخر، يتجاوزنا، سواء كان مُقدسا أو ما ورائيا، أخرويّا. هنا يتفق إِكو ومارتيني مع إحدى مقولات الأديب الفرنسي ميلان كونديرا، وهى"نزع الطابع الإلهيّ عن العالم هو إحدى الظواهر المميزة للعصور الحديثة؛ ولا يعني نزع الطابع الإلهيّ الإلحاد، إنه يشير إلى الحالة التي يحل فيها الفرد، الذات المفكرة، محل الله بوصفه أساس كل شيء، وبوسع الإنسان أن يظل محافظًا على إيمانه وأن يجثو على ركبتيه في الكنيسة أو يصلي في السرير ولن ينتمي تدينه بعد الآن إلا لعالمه الذاتي". وهذا في حدِّ ذاته إشكالية في ماهية الأخلاق ذاتها، لاختلاف النسبية عند كُل إنسان في تعريفه ما هي الأخلاق، وما هي ممارساتها. أيضا مركزية الأخلاق، عند المفكر المصري عبد الوهاب المسيري، تعود إلى الله إذ يقول: «الله هو الركيزة الأساسية لكلِّ شيء. الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نُسيَ الله، ركيزة الكون كلها تنتهي».
في النهاية يتفق كل من إِكو ومارتيني على أهمّية هذا النقاش، وفاعليّة كل ما يؤدي نحو التقارب، بل والنظر والإيمان فيما يتجاوز الحياة، قد يجعلنا جميعا، ننظر أن هذه الحياة التي تفرقنا فيها، سنجتمع فيما بعدها، وهذا ما يؤسس بشكلٍ أو بآخر إلى المحبة والتسامح بين جميع المُختلفين في الدنيا.