حسين فوزي
التظاهرات التي شهدتها بعض المحافظات، مثل البصرة والنجف وبابل، هي مؤشر لتصاعد نفاذ صبر المواطنين العاطلين عن العمل، وشعورهم بأن المجسرات وتصريف المياه الثقيلة لن يقوداهما إلى توفير لقمة خبز كريمة.
ومع أن الانصاف يستدعي الاعتراف بوجود حراك في أجهزة الدولة لتوليها مهام أساسية طال انتظار المواطن لها، وهي حالة "إيقاظ" ينهض بها رئيس مجلس الوزراء السيد محمد شياع السوداني، إلا ان هذه المشاريع لا تتخطى حدود خدمات بلدية، كان المفترض بها أن تتولاها سلطات الحكم المحلي والبلديات، وليست من مهام مجلس الوزراء ورئيسه حصراً. مع حقيقة انها من ضرورات الحياة الأساسية في مجتمع حضري لحماية صحة السكان. وهذا يعني أن تحالفاً وطنياً لا يمكن له تجاهل مثل هذه الجهود، ولا اغفال شخصية شجاعة أنجزت الكثير مثل د. حيدر العبادي بكل ما عرف عن حرصه على المال العام.
إن التحدي الشاخص في المديين المتوسط والبعيد هو الحاجة لبرنامج عمل ينفذ تنمية مستدامة في تشغيل المشاريع المعطلة بفعل الاحتلال وسياسة بريمر لتحويل العراق إلى "زبالستان" لكل السلع المستهلكة وغير عالية الجودة، إضافة إلى سياسة السلطة في تكريس الموازنة العامة للدولة لسد الافواه بتوظيف عمالة غير منتجة أو زيادة عدد المستفيدين من الإعانة الاجتماعية، بكل ما يعنيه من استنزاف خطير للموارد بدون أي افق حقيقي لإدامة هذا التوظيف والإعانات التي هي رهن بأسعار النفط، فأن انخفضت تبخرت القدرة على دفع رواتب كل المستفيدين.
إن مجلس الوزراء مطالب بالعودة إلى احياء بنود الخطة الخمسية الأولى بعد 14 تموز 58 في السعي الحثيث المتسارع لإقامة صناعات خفيفة تلبي الاحتياج الوطني، بكل ما يعنيه هذا من ارتقاء في كفاءة الأيدي العاملة من بسيطة إلى شبه فنية. كذلك مراجعة مخططات مجلس الإعمار الملكي وبرامج التنمية التي أعدتها وزارة التخطيط خلال الفترة 72-1980، لتنفيذ مفرداتها بحسب الاسبقية.
إلى جانب الالتزام بتنفيذ مشاريع إنتاجية كبرى، مثل توسيع معامل الصلب، والأسمدة، والمنتجات النفطية، والورق، وتجميع الحافلات والشاحنات الكبيرة والمتوسطة والسيارات والجرارات، والزجاج، وتعليب المواد الغذائية الزراعية، والبطاريات والمصابيح بكل اشكالها...الخ، من خلال تنشيط الاستثمار المختلط بين الدولة والقطاع الخاص الوطني والأجنبي.
إن أكثر من 11 مليون عاطل، اغلبهم من الشباب، وتخطي تعداد المواطنين دون خط الفقر لـ14 مليوناً، لا يمكن علاجه من خلال استثمارات القطاع الخاص منفرداً، مع الضرورة الملحة للمزيد من تشجيع الاستثمارات الوطنية، ليس من خلال التصريحات، إنما تفعيل حقيقي للنافذة الواحدة، وتسهيل المحاسبة الضريبية، وملاحقة أصحاب النفوذ ممن يطالبون بعمولات طاردة للاستثمار الوطني والأجنبي، وتوفير بنى تحتية لمشاريع الإسكان العمودي المدعوم من الدولة.
وفي ظل متغيرات الساحة السياسية، يلوح في الأفق بوضوح دور مرتقب لـ "التيار الوطني الشيعي" الذي يقوده السيد مقتدى الصدر، وهو دور قابل لأن يتعاظم إذا ما أعتمد في طروحاته خطاباً ممنهجاً يستند للإحصاءات وتشخيص أسبابها وسبل معالجتها، وعدم الاكتفاء بالشعارات المعبرة عن عواطف اغلبية العراقيين المستضعفين المنهوبين من "مراكز الفساد" الماسكة لمفاصل رئيسة سياسية وإدارية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. إن تبجيل آل البيت، من اسباط سيدنا الرسول، احفاد الإمام أبو تراب علي بن ابي طالب، لا يتحقق بترديد آيات القرآن الكريم وحكم المقاتل الأبسل عن رسالة الإسلام أبو الحسنين، إنما من خلال خطط عمل بناء يتبناها تحالف وطني ملتزم متماسك مسنود جماهيرياً لإخراج العراق من ازمته التي أدت لها الحروب العبثية للنظام الشمولي.
ويرى أصحاب الرساميل الوطنية، ممن اجبروا على "تهجير" استثماراتهم، وبقية البرجوازية الوطنية الصناعية والزراعية، من كل أطياف المجتمع، كذلك شرائح المجتمع المسحوقة، يرون في "براءة" الصدريين من إخفاقات الأعوام الماضية، حالة مشجعة لاصطفاف الجميع من المتضررين، عرباً وكرداً وتركماناً...، سنة وشيعة ومسيحيين وازيديين .. الخ، مع التيار الوطني الشيعي.
وهو اصطفاف قادر على تخطي تجمع المتضررين والمتحمسين إلى تحالف رصين متماسك ركائز وعيه برنامجه القريب والمتوسط والبعيد، إذا ما حشد المكتب السياسي للتيار الوليد خبرات اكاديمية وعملية وسياسية نزيهة في صياغة برنامج عمل لصيانة جمهورية العراق الديمقراطية الاتحادية، من خلال خطة لتعزيز المساءلة المالية للجميع بدون استثناء، ووقف ترهل أجهزة الدولة وتوسيع افاق مشاريع الإنتاج الوطني المتنوع لإنهاء أحادية الاقتصاد الريعي، وانهاء سياسية الماسكين بمفاصل السلطة في تجيير أموال الدولة لشراء الذمم واصوات الناخبين، وإقامة هيكلية عادلة للوظائف العامة عموده الفقري سلم رواتب، لا تكون فيها المناصب الرفيعة مغنماً، فيما يعاني بقية الموظفين والجماهير من شظف العيش.
وكل هذا قد لا يكون له افق إيجابي، ما لم يتم تعميق القيم الديمقراطية في المجتمع، بدءاً من التحالف الوطني نفسه أولاً، من خلال نظام داخلي يضمن المشاركة الحقيقية في القرار، وليس على غرار الجبهة الوطنية التقدمية بعد عام 1970، التي تحولت لصاحبها النظام الشمولي.
إن المخاض الجماهيري المتصاعد في تذمره، يمكن "عقلنته" ببرنامج العمل الذي يرسمه التيار الشيعي مع بقية التيارات الوطنية العراقية، ليكون تحالفاً واعياً يقود حراكاً جماهيرياً فاعلاً، يضمن اغلبية سياسية قادرة على تحقيق تغيير حقيقي يعيد للعراق طاقاته لتحقيق وطن يليق بشعب الحضارات وتراث آل البيت وبقية فقهاء الإيمان دعاة حرمة الإنسان وحقه في الحياة الكريمة بدون تعسف المتجبرين.
ومن الضروري الوعي بحقيقة ان الشعارات والعواطف لن تبني وطناً مستقلاً لا يخضع لنفوذ الجوار وليس تابعاً لقوى كبرى، ما لم تكن هذه العواطف تنفيذ لمشاريع بناء، فالاقتصاد، الإنتاج الزراعي والصناعي ضمانة حقيقية للتحرر، بالأخص حينما تكون للبلاد قوات مسلحة واعية لقسمها القانوني في حماية الدستور والشعب، وليس مليشيات تعتمد في استمراريتها على تبعيتها لقوى خارجية واستحواذها على المال العام والخاص.