محمد عبد الجبار الشبوط
في العراق، يحتفل اليوم آلاف، وربما ملايين، من الناس بعيد ميلادهم. 1 تموز! يومٌ واحد اختارته الدولة ليكون ميلادًا جماعيًا لمجهولي التواريخ. ليس لأنهم ولدوا فعلًا في هذا اليوم، بل لأن الدولة ــ أو مؤسساتها البيروقراطية ــ لم تجد وقتًا أو جدوى لتسجيل يومهم الحقيقي.
إنها واحدة من أغرب المفارقات الوجودية التي يمكن أن يعيشها الإنسان: أن لا يعرف متى جاء إلى هذا العالم. أن يحتفل كل عام بيومٍ لا يخصه، ويضحك في ذكرى لا تمتّ له بصلة، ويستلم التهاني على أساس كذبة موثّقة في هوية رسمية.
كم من طفلٍ ولد في كانون الثاني أو تشرين، في صيف قائظ أو بردٍ قارس، ثم أُلقي به في أرشيف الدولة ليُسجّل ضمن “مواليد 1/7”؟ كم من أمٍّ حفظت لحظة الولادة، الساعة، والآهة الأولى، وكم من أب فرح بمولوده لحظة خروجه إلى الدنيا، لكن الدولة تجاهلت كل ذلك وسجّلت التاريخ كما يناسبها، لا كما حدث فعلًا؟
هذا ليس مجرد خطأ إداري. هذه جريمة هوية. تزوير وجودي. الإنسان يُسرق من لحظة مجيئه، وتُنتزع منه علاقته بالزمن، بالذاكرة، بالتاريخ. من لا يعرف متى وُلد، لا يعرف متى يبدأ، ولا متى يحتفل، ولا حتى متى يتوقف.
ربما يقول البعض: “وما المشكلة؟ مجرد تاريخ!”. لكنها ليست مسألة رقم في شهادة الجنسية أو البطاقة الموحدة. إنها مسألة كينونة. المسألة أن الدولة، منذ عقود، لم تكن ترى في الإنسان إلا رقماً، ملفاً، مخلوقاً لا يحتاج إلى تواريخ دقيقة، ولا حياة خاصة، ولا فرح حقيقي. المهم أن يُسجّل. أن يُحفظ في الدفاتر. أن يُقيَّد.
لقد نشأنا ونحن نردّد “مواليد تموز”، ونضحك، ونُمازح بعضنا: “كلكم وُلدتم في يوم واحد؟”. نعم، وُلدنا في يوم واحد لأن الدولة جعلتنا كذلك. لم يكن المهم متى فتحنا أعيننا على العالم، بل متى فتح الموظف دفتره ليكتبنا فيه. ولهذا، أصبح عيد ميلادنا مهرجاناً للزيف، لا للفرح.
هذه ليست مسألة شخصية. إنها صورة مصغّرة عن الدولة العراقية في نسختها الورقية: دولة لا تهتم بحقيقة الإنسان، بل بشكل الورقة. دولة تُعيد كتابة الهويّات وفق المتاح، لا وفق الواقع. دولة جعلت من أعياد الميلاد المزيفة مرآة لهوية مزيفة، لمجتمعٍ تعلّم أن يتعايش مع الكذب حتى في لحظات الفرح.
فكيف نطالب الناس بالانتماء لدولة لم تعترف بيوم ولادتهم؟ كيف نطلب من الإنسان أن يكون مواطنًا حقيقيًا، إذا كان تاريخ ميلاده نفسه غير حقيقي؟
ربما نضحك اليوم ونقول لبعضنا “عيد ميلاد سعيد”، لكن الحقيقة أننا نحتاج أن نحزن أولًا. أن نحزن لأن هذه البلاد، في لحظة من لحظات القهر الإداري، سرقت منا حتى يومنا الأول في الحياة.