تفسير الدستور
4-تشرين الأول-2022
محمد عبد الجبار الشبوط
(١٠)
المثل الاعلى
عاني المجتمع العراقي خاصة خلال الستين سنة ونيف الماضية من الاثار الكارثية الناجمة عن اتباع قيم مستمدة من مثل تكرارية او محدودة. وكان من أهم نتائج ذلك اعاقة المجتمع العراقي عن التقدم والتطور والسير في الطريق الحضاري الحديث وبخاصة على مستوى بناء الدولة وممارسة السلطة. في حين ان المجتمع الصالح الذي ينزع الى التقدم والتطور يرفض هذه المثل التكرارية والمثل المحدودة ويتطلع دائما الى مثل تغطي مساحات كبيرة وواسعة من المستقبل. تحصل التطورات او التحولات او الطفرات التاريخية والحضارية الكبرى حين يتخذ المجتمع لنفسه اهدافا بعيدة ومثلا عليا كبيرة لان هذه المثل الكبيرة او القيم العليا تملك من القدرة ما يمكنها من حشد الطاقات والامكانيات التي يختزنها الفرد او المجتمع او الدولة وتوظيفها لتحقيق تلك المثل الكبيرة.
وقد لا يحصل هذا الرفض للمثل التكرارية او المحدودة من البداية، فتنفق المجتمعات قطعة من الزمن تكبر او تصغر وهي تسعى وراء هذه المثل التكرارية او المحدودة المعيقة للتقدم والتطور. لكن تنامي الوعي من شأنه ان يوصل المجتمع الى هذه النتيجة، فتحصل الثورات الحضارية الكبيرة. لابد ان يكتشف المجتمع في نهاية المطاف ان المثل التكرارية لا تحقق له التقدم الذي ينشده فيتمرد عليها. لكن رفض المثل المحدودة قد يستغرق زمنا. ذلك ان المثل المحدودة قد تتمكن من تحقيق بعض الانجازات الملموسة بقدر المساحة الزمنية التي تغطيها، وبقدر قوة توظيف الموارد المتوفرة لمدة من الزمن، كما حصل للاتحاد السوفياتي في عهد ستالين. لكن هذه القدرة المحدودة تستنفد كل طاقتها خلال زمن معين فتتحول المثل المحدودة الى مثل تكرارية غير قادرة على الانجاز، فتسعى الى التغطية على هذا العجز عن طريق عبادة الشخصية، وهذا ما فعله ستالين وهتلر وصدام. فتبدأ بذرة الوعي القيمي بالانتشار ويتسع الرفض، ويسقط النظام اما بفعل تدخل خارجي او ثورة داخلية.
الان يواجه النظام السياسي في العراق مثل هذا الامر لانه قام على مثل محدودة في نظرتها المستقبلية. وقد استنفدت هذه النظرة طاقتها باسقاط نظام صدام وتحقيق بعض الانجازات المحدودة، وفقد النظام القدرة على تحقيق المزيد من الإنجازات، الامر الذي يفرض الحاجة الى نظرة جديدة تغطي مساحة اكبر من المستقبل. وفي هذا السياق اتفق نسبيا مع رأي دوركايم القائل "ان المجتمع يخلق مثله الاعلى"، وقد استبدل كلمة "يخلق" بكلمة "يختار"، تبعا لدرجة الوعي القيمي الذي يتمتع به المجتمع.
واليوم ادرك المجتمع العراقي على نحو الاجمال ان القيم المشتقة من مثل عليا تكرارية او محدودة لم تحقق له اماله المنشودة وطموحاته المشروعة فاخذ يعلن التمرد عليها ورفضها. وما فقدان ثقة المجتمع العراقي بالدولة بصورة عامة وسلطاتها المختلفة خلال المئة سنة الاخيرة الا رفض تراكمي لذلك. وهذا هو منشأ الحركات الاحتجاجية التي يشهدها المجتمع العراقي بين الحين والاخر منذ عشرات السنين، دون ان تنجح هذه الحركات الاحتجاجية في وضع المجتمع العراقي على الطريق الصحيح بسبب طرحها لاهداف محدودة او تكرارية غير قادرة على تحريك المجتمع بالاتجاه الصحيح، مثل اسقاط النظام (اي نظام كان)، او محاربة الفساد، او محاربة الفقر، او الحصول على وظيفة حكومية او غير ذلك من الاهداف التي قد تكون صحيحة بذاتها لكنها محدودة في افقها المستقبلي. ومن هنا تبرز الحاجة النظرية والعملية الى طرح منظومة قيم مستمدة من مثل اعلى اكبر من المثل التكرارية او المحدودة، بحيث تكون قادرة على استيعاب تطلعات واهداف المجتمع العراقي لفترة زمنية طويلة، وبهذا نضمن عدم ارتكاس الحراك الاجتماعي العراقي وسقوطه في جرف هار لا يستطيع ان ينتقل بالمجتمع الى مستقبل زاهر. "أَفَمَن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضوَٰان خَيرٌ أَم مَّن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَٱللَّهُ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلظَّٰلِمِينَ".
يتبع..