توظيف التراث لهدم التراث!
3-نيسان-2023
حسن الصرّاف
قرأتُ في أكثر من موضع من منشورات وتعليقات الأصدقاء في التواصل الاجتماعي أنَّهم استدلّوا برواية تاريخية فحواها إنَّ أحد الخلفاء العباسيين استشار أحد أئمة أهل البيت (ع) في هدم بعض الدور من أجل توسعة مسجد الحرام، وإنَّ الإمام أجاز ذلك لكون الكعبة أقدم وأهم من الأبنية المراد إزالتها. يعتقد هؤلاء الأصدقاء أنّه يمكننا اعتماد هذا التجويز في أي زمان وفي أي مكان لهدم أي شيء يعارض توسيع الأماكن الدينية والمقدّسة القديمة، وذلك لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الزائرين والسائحين دعماً للسياحة الدينية.
أرى أنّ توظيف هذه الرواية التاريخية في هذا السياق وفي القرن الواحد والعشرين غير صحيح لأكثر من سبب:
أولاً: لم يكن مفهوم «التراث» متداولاً ومعتمداً لدى الأفراد والمجتمعات البشرية قبل ألف عام، وهذه الرواية التي وُظّفَتْ لِشرعنة تهديم التراث يجب قراءتها ضمن تاريخها وعصرها فقط. وفي ذلك العصر لم ترتق العلوم الإنسانية والمعارف البشرية إلى المستوى الذي تجعلها تدعو إلى المحافظة على الذاكرة الجمعية والآثار القديمة والتراث المادي. فضلاً عن أن علم الآثار كما نشهده اليوم يُعدّ من العلوم الحديثة الذي نشأ في حدود القرن الثامن عشر بوصفه مصدراً أساسياً ومهماً من مصادر المعرفة التاريخية، وكلّ من لديه معلومات بسيطة عن هذا الحقل يعلم أن علم الإنسان (Anthropology) وعلم الإنسان الثقافي (Cultural & Social Anthropology) من أهم الحقول العِلمية التي لا تستغني عنه المجتمعات في معرفة تاريخها، وإنَّ هذه الحقول العِلمية تستمد مادتها الأساسية من التراث المادي. إذن لا يبقى أدنى شك في أنَّ التراث المادي لم يكن مفهوماً متداولاً ومهماً لدى الأفراد في العصر العباسي الأول، لأنّه يشكّل قضية حديثة. وإنَّ الإصرار غير المبرَّر على عدم الانفتاح على هذه العلوم الحديثة والإصرار على إهمالها يشكّل أحد أهم الأسباب في أزماتنا الراهنة وتأخر المجتمعات الإسلامية عن معطيات العلوم الحديثة.
ثانياً: توظيف الأحداث والقضايا التاريخية عند اتخاذ قرارات لِمعالجة أمر في الواقع المعاصر هي من أخطر المناهج والأساليب في تكوين الرأي العام في المجتمعات الدينية، فالمتخصصون في الدراسات الدينية والسياسية، ولا سيما بعد التجارب المريرة في القرون الأخيرة في المجتمعات الإسلامية يحذّرون كثيراً من اعتماد حَدَث قديم خاصّ بعصره عند رسم السياسات العامة واتخاذ القرارات المهمة. فكلّ حَدَث تاريخي له ظروفه وملابساته وحيثياته، ولا يمكن استنساخ ما حَدَثَ في الماضي عند اتخاذ قراراتنا في الحاضر. ولذا من المعيب جداً أن نوظّف الماضي ونعتمد التراث من أجل القضاء على التراث نفسه، لا سيما إذا كان تراثاً ماديّاً يشكّل المادة الرئيسية لحقول علمية عدّة مثل علم الإنسان الثقافي، ومن المعيب جداً أن نوصم دعاة الحفاظ على التراث بأنَّهم يتوخون مصالحَ مادية!
ثالثاً: إنَّ توظيف الروايات التاريخية الصادرة عن أعلى سلطة روحية في التراث الديني من أجل اتخاذ قرار دنيويّ معاصر يعطي مسوغاً لأصحاب ذلك القرار لإِقصاء ومهاجمة معارضيهم، وهذا ما يخلق سجالاً وصراعاً عبثياً بين الداعين إلى تنفيذ القرار والرافضين له. فالمؤيدون سيقولون: إن الرافضين لهذا القرار أو لهذه السياسة العامة يناهضون الدين والعقيدة، لأنّهم يرفضون شيئاً مستمداً من التراث الديني! في حين إنَّ الأمر ليس كذلك بتاتاً، فقرارات الإنسان الخاصة بالشؤون العامة والقضايا الدنيوية إنما هي اجتهادات بشرية قابلة لِلنقاش وغير مقدَّسة.
قد يسأل سائل: كيف تدعو إلى عدم توظيف الأحداث التاريخية في اتخاذ القرارات ورسم السياسات، وفي الوقت نفسه تدعو إلى المحافظة على التراث المادي؟ الجواب هو بيت القصيد، من يدعو إلى المحافظة على أسطرلاب قديم، أو مَن يدعو إلى المحافظة على جَرّة فخارية أثرية في المتحف لا يريد أن يستعملها في حياته اليومية في العصر الحديث، بل يدعو للمحافظة عليها لأنّها جزء ماديّ من تاريخ العلم، ومن تاريخ الإنسان. فالتراث المكتوب محفوظ في الكتب والمخطوطات، والتراث الماديّ محفوظ بين الآثار القديمة والأبنية والجدران والنقوش وفي مقتنيات المتاحف.
أدعو أمثال هؤلاء الأصدقاء إلى مطالعة كُتيّب صغير بعنوان «الإسلام الرحماني»، حيث يقول مؤلفه محسن كديور: «لا يمكن أن نتوقَّع مِن الدين أن يفسّر الكونَ تفسيراً علمياً، وأن يدير الشؤون السياسية والاقتصادية والقانونية، أو أن يجيب عن كلّ الأسئلة والاستفهامات البَشرية. إنَّ ما یمکن توقّعه من الدين يتمثّل بثمانية موارد: إضفاء المعنى على الحياة، ومعرفة الأمر المتعالي (المبدأ)، ومعرفة العالَم الآخَر (المعاد)، ومعرفة عوالم الغَيب، وضمان الأخلاق، والمناسك والعبادات، وشبه المناسك (التوقيفيات غير التعبّدية)، والخطوط العريضة والعامة في المعاملات (تقديم بعض القضايا الكلية والعامة في العلاقات الإنسانية)».