مارلين كنعان
تدين الحداثة الأوروبية بكثير من إنجازاتها لأفكار عصر الأنوار وقيمه التي هيمنت على الثقافة الغربية في القرن الثامن عشر، ومنها سيادة العقل المطلقة والإيمان بالعلم بوصفه مصدراً أساسياً للمعرفة القائمة على التجربة والملاحظة، وسيادة الحرية الفردية والرقي والتسامح والإخاء والديمقراطية والقوانين الوضعية وفصل الدين عن الدولة، وهي أفكار وقيم أسهمت بحسب الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط (1724-1804) في خروج الإنسان من قصوره العقلي وبلوغه سن الرشد ورفضه التبعية للآخرين من خلال موقفه من الوجود، وطريقته في التفكير والشعور والسلوك، لكن ما بعد الحداثة التي بدأت تباشيرها تلوح منذ نهاية الستينيات من القرن العشرين، والتي وصلت اليوم إلى الصحوة "الووكية" مع ما يرافقها من أفكار وسلوكيات، تنظر إلى مشروع التنوير والعقلانية بوصفه قيداً يأسر الفرد. وكلمة الووكية (wokisme) مشتقة من الفعل الإنجليزي to wake الذي يفيد معنى الاستيقاظ من النوم. وقد راج المصطلح في الأوساط الأفرو-الأميركية، ثم انتقل إلى أوروبا وهو يفيد لغةً، معنى الاستيقاظ من السبات الإيديولوجي الذي هيمن على المجتمعات الغربية . ينادي أنصار هذا التيار اليوم بإنصاف كل المهمشين من المثليين والمتحولين جنسياً والمهاجرين والأقليات العرقية، في هدم للسلوكيات والقيم التي سارت عليها البشرية حتى اليوم.
تطرح هذه "الصحوة الووكية" على متتبع مسرى الحضارة الأوروبية السؤال عن نهاية عصر الأنوار ومشروع الحداثة الذي وصفه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس المولود سنة 1929 في كتابه "الخطاب الفلسفي للحداثة" بـ"غير المكتمل". فهل انطفأت فعلاً أنوار مشروع الحداثة والعقلانية في أوروبا التي شكلت لحظة مفصلية في التطور الفكري للإنسانية، حينما جعلت الإنسان مركزاً للعالم ونظرت إلى العقل كأداة أساسية لفهم الكون والطبيعة؟ وأين نحن اليوم من هذا المشروع الطموح الذي أراد أن يساعد الفرد على تحرير نفسه من كل القيود؟
المشروع التنويري
قبل الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، لا بد من الإشارة إلى أن مشروع الأنوار الأوروبي قام على فرضية مفادها أن الإنسان هو كائن حر وواع ذو إرادة مستقلة، له مطلق الحرية في إعمال فكره النقدي في تجسيد واضح لمفهوم الحرية "السلبية"، القائم على ضرورة التحرر من كل القيود وعلى تأكيد قدرته ووعيه الخلاق وإرادته الفعالة والصارمة. بتعبير أوضح، دافع مشروع الأنوار عن فكرة تقول إن الإنسان بوصفه كائناً عقلانياً، إن أراد أن يصبح أكثر حرية، عليه أن يتحرر من القيود التي فرضتها عليه الهيكليات والمؤسسات الاجتماعية والدينية والسياسية كالكنيسة والأسرة والأمة. وقد بدأ هذا التحرر فعلياً مع ظهور فلسفات جان-جاك روسو وفولتير وديفيد هيوم وقيام الثورة الفرنسية وصعود نجم الأفكار الفلسفية التجريبية وتطبيقها على الاقتصاد والعلوم والسلطة السياسية كما كانت تطبق في الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء. وقد استمرت هذه الأفكار في سيادتها، على رغم ظهور بعض الانتقادات لمبادئ الحداثة وتعثرها بين الحين والآخر، حتى قيام أحداث شهر مايو (أيار) في فرنسا عام 1968، التي مهدت على طريقتها لأفول مشروع الأنوار والإعلان عن بزوغ مرحلة ما بعد الحداثة. حافظت هذه الأحداث أولاً على فكرة الحرية "السلبية" التي قالت بها الحداثة، غير أنها جعلتها تخضع لحركة مزدوجة كانت ستفاجئ بلا شك عديداً من دعاة عصر الأنوار.
وللتذكير بدأت أحداث مايو 1968 بسلسلة من إضرابات طلابية ضد الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية والإمبريالية الأميركية والمؤسسات التقليدية التعليمية والدينية، وتعاطفت معها اتحادات النقابات العمالية في فرنسا، فانتشرت الإضرابات والمواجهات مع الشرطة بسرعة أكبر بكثير مما كان متوقعاً، غير أن هذه الاحتجاجات والتظاهرات قوبلت في جميع أنحاء البلاد بمواجهة قوية من السلطات التربوية والأمنية. وقد وضح المؤرخ جان- بيار لوغوف (1924-2014) بالتفصيل في كتابه المعنون "مايو 68- الميراث المستحيل" كيف أن هذه الاضطرابات التي تعتبر الحدث الاجتماعي والثقافي الأبرز الذي عاشته فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، شكلت، في رأيه، نقطة تحول في تاريخ الثقافة الفرنسية، إذ شددت على ضرورة إدخال فكرة تحرير الفرد من كل القيود بدءاً من البرامج التربوية، في تتال للدعوات إلى عدم فرض أي شيء على الإنسان ولو كان على مقاعد الدراسة، مما أدخل مشروع الأنوار في متاهات أصبحت أكثر تعقيداً، كما أفسحت العقلانية "الباردة" وشبه الرواقية المجال لظهور مذهب المتعة "الساخنة"، وظهور شعار حرية "الاستمتاع من دون عائق"، الذي كان من نتيجته تلاشي فكرة الانضباط والسيطرة على النفس، مما جعل أحداث مايو 68 في الوقت نفسه ذروة النشاط الطلابي وبداية نهايته.
وإن ننس فلن ننسى أن تقريظ الأحداث لمبدأ "الذات المتمتعة" حمل في نفسه كماً من التناقضات، عبر عنها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) حين قال "إن الرغبة لا تتحقق إلا في الحد الذي تحرم فيه الذات من القدرة على قول أنا". وهذا يعني أن المتعة المطلقة تحرم الفرد من كل ضبط للنفس، بالتالي من كل إرادة حرة حقيقية قام عليها مشروع التنوير الأوروبي. ولتأكيد هذه الفكرة أورد أيضاً ما قاله الكاتب والفيلسوف الإنجليزي تشيسترتون (1874-1936) حين شبه "الانصياع للرغبات والتجربة" التي دافعت عنها حركة مايو 68 "بالاستسلام للابتزاز". فكما أن الإنسان الذي يدفع لمبتزه من أجل أن يكون حراً يجد نفسه كلما دفع "مستعبداً أكثر" كذلك تقود المتعة في كثافتها إلى اضمحلال الإرادة الإنسانية وتقييد أكبر للذات التي نادت بكسر القيود. من هذا القبيل كانت الصورة المعاصرة لـ"المدمن" أي الرجل الذي تهيمن عليه دوافعه وعواطفه، هي إحدى الثمار المتناقضة لمفهوم الحرية كما قالت به أحداث مايو 68.
ومن عوارض نهاية مشروع الحداثة والتنوير وبزوغ زمن ما بعد الحداثة نمو الثقافة الاستهلاكية والدور المفرط والمتناقض للإعلانات، التي جعلت من الإنسان المستهلك الشخصية الاجتماعية التي تمثل التطلعات الشرهة والوهمية، فتحول البحث الفردي المحموم عن اللذة إلى عائق يقف أمام كل انشغال بالشأن العام بحسب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار (1929-2007). وأصبحت جميع مظاهر الثقافة والقيم الإنسانية التي أعلت من شأنها الأنوار، وعلى رأسها الآداب والفنون مجرد سلع تجارية، أسهمت وسائل الإعلان وتكنولوجيا المعلومات المعاصرة بدور رئيس في تشييئها في قتل واضح للإبداع وإعمال العقل عبر ما يسميه بودريار "براكسيس الاستهلاك"، هذا عدا عن تحول الاهتمام بالشأن السياسي والاجتماعي لصالح الاهتمام بالمجال الخاص المتمثل في العمل والأسرة وأوقات الفراغ. وقد لاحظ بودريار أن الاستهلاك، بوصفه قيمة ما بعد حداثية، نجح في جعل الناس يشعرون بأمن زائف من خلال خلق ذات سلبية تفتقر إلى الشعور بالذنب أو التقصير حينما تكون الأخطار والكوارث بعيدة عنها، فأصبح الفرد بالتالي كائناً محايداً مخالفاً لما دعا إليه مشروع التنوير، وأصبحت علاقته بما يجري من حوله علاقة فضول لا أكثر.
نستنتج إذاً مما تقدم أن ظاهرة الاستهلاك وإعلاء شأن المتعة الشخصية ومقام العاطفة ورفض القيود وغيرها من الأفكار، نجحت في خلق فرد مستكين، يلهث وراء شبح السعادة الوهمية ساعياً إلى مطاردته من دون أن يفلح في الإمساك به، ما دامت حاجاته تتنامى باستمرار وهو عاجز عن إشباعها ليختصر وجوده في ما هو مادي محض، في تسويق لصورة الإنسان الحضاري الزائف الذي يتساوى مع منطق الأشياء والسلع. وبعبارة أوضح لقد بدأ المجتمع الاستهلاكي المعاصر بـ"دفن" إنسان التنوير مع كل ما تحمله هذه الكلمة من معنى من خلال مساءلة الحداثة ومشروعها والتشكيك في طبيعة إنجازاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي جان- فرانسوا ليوتار (1924-1998) حين قال إن الأزمنة المعاصرة خرجت من الحداثة أو العقلانية النقدية ودخلت زمن ما بعد الحداثة القائم على نقد العقلانية التي وعدت الإنسان بالتحرر، لكنها ما لبثت أن أسرته بقيودها. وإذا كان إنسان الحداثة والعقلانية قد استند إلى المثال الديكارتي القائم على التشكيك في حقيقة حواسه والعالم الخارجي، ثم إعادة بناء الحقيقة اليقينية تدريجاً بالاستناد إلى العقل وحده، فإن هذه اللحظة الحاسمة أخذها تيار ما بعد الحداثة إلى ذروتها بحيث إنه قلبها، في انعكاس مذهل، ضد العقل نفسه.
هذا ما تحاول حركة الاستيقاظ أو "الصحوة الووكية" التي بدأت تنغمس فيها المجتمعات الغربية بشكل متزايد والتي بدأت أصداؤها تسمع في عالمنا العربي، الدعوة إليه من خلال ما تسميه "إيقاظ الضمائر النقدية"، في مدح صريح للنفي أو الرفض الخالص المترافق مع عدم القدرة على صياغة مشروع سياسي إيجابي، بحيث سيكون من الضروري في إثر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية "تفكيك" العالم بأسره، و"محاربة" بعض القوالب النمطية، ومناهضة العنصريين والمتحيزين جنسياً، أو تفكيك التهميش المبني على الثقافة والعرق والهيمنة الاستعمارية الجديدة، إلخ، مع الإبقاء على بعض قيم التنوير كفكرة التحرر الفردي، الذي لا يكون، بحسب هذا التيار إلا من خلال تدمير "النظام العقلاني الأبوي العنصري"، كإن تصبح الحرية السلبية والعقلانية التي قالت بهما الأنوار في مفارقة واضحة قيوداً تعوق حياة الأفراد. من هذا المنظار نفهم دعوة بعض علماء الاجتماع إلى البحث عن طرق حداثة أخرى تحمي البشرية من إعمال العقل المتفلت من عقاله، والذي أدى إلى انتهاك الطبيعة وانقراض بعض الأنواع من الحيوات النباتية والحيوانية، وإلى التلاعب بالجينات البشرية وظهور الذكاء الاصطناعي.
ما زالت النقاشات المرتبطة بأفول الحداثة وقيمها وظهور ما بعد الحداثة في تصاعد مستمر. وما زال المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية والعولمة يقدم نفسه كرد فعل على الحداثة معرفاً ما بعد الحداثة بوصفها تشكيكاً موجهاً نحو كل الادعاءات الكبرى في الحياة. ويبدو أن الصراع بين المشروعين ما زال على أشده وغداً لناظره قريب.