هوفيك حبشيان
بعد تكريمه كوبولا وإيستوود وتارانتينو ودونوف وكامبيون منذ انطلاقه في عام 2009 قرر مهرجان لوميير السينمائي رد الاعتبار إلى المخرج الأميركي الكبير تيم برتون في حفلة مهيبة جرت في واحدة من أجمل قاعات مدينة ليون حضرها بضعة آلاف، ولم يستطع حبس دموعه، خلالها سلم برتون جائزة لوميير التي أسندت إليه عن مجمل مسيرته التي تعود بداياتها إلى عام 1985، يوم قدم فيلمه الطويل الأول "مغامرة بي وي الكبيرة"، لكن المخرج البالغ اليوم الـ64، كان بدأ في مطلع السبعينيات بالسينما القصيرة وأخرج أول فيلم قصير له، "جزيرة الدكتور أغور" حين كان في الـ13، مما يعني أن السينما في دمه منذ الطفولة ولم تفارقه إلى يومنا هذا.
خلال العقود الأربعة الماضية، أخرج برتون 19 فيلماً روائياً طويلاً، بعضها صنع شهرته الواسعة في العالم، من مثل "بيتلجوس" و"إدوارد ذو اليدين المقصين" و"هجوم المريخ!". وقدم نسخات عصرية لكلاسيكيات مثل "كوكب القردة" و"أليس في بلاد العجائب"، إضافة إلى فيلم عن السينما هو واحد من أجمل أعماله: "إد وود" عن المخرج الأميركي الذي يحمل الفيلم اسمه والذي اشتهر بكونه أفشل مخرج في التاريخ. أما "سليبي هولو- أسطورة الفارس المقطوع الرأس"، فوحده يلخص ذروة الفن البرتوني.
بصمة خاصة
عندما نصف فنه بالـ"برتوني"، نعي تماماً ما نقوله. فللرجل عالم لا بل عوالم استحضر إليها كل المواضيع التي ود التطرق إليها، واضعاً عليها بصمته الجذابة الخاصة، مغلغلاً فيها أشياءه وأشكاله الفنية ومخاوفه وانحيازاته ورؤيته للطبيعة البشرية والعالم، هذا كله جعله سينمائياً لا تحتاج العين إلى بذل كثير من الجهد كي تدرك أنها أمام فيلم لتيم برتون. مشهديته يمكن التعرف عليها عن بعد كيلومتر. سينماه التي تركت تأثيراً جمالياً وأسلوبياً في الثقافة الشعبية، تتضمن إحالات على تاريخ الفن في مختلف مراحله، من الغوطية إلى الباروك عبوراً بالرومنطيقية. أما خياله فلا يعترف بحدود. عن موضوع الخيال. يقول برتون في مقابلة "أظن أن كلاً منا يتمتع بخيال واسع إذا أطلق العنان له. فالأطفال مثلاً، ينسابون وراء خيالهم الخصب في عالمهم الخاص، وينسجون أجمل القصص. وهذا ما سعيت إليه دوماً وأعتقد أننا قادرون على تعزيز خيالنا، بمجرد أن ننسى القيود ونؤمن بالأحلام. أما بالنسبة إلى موطن الخيال الذي أعيش فيه، فأنا لا أفكر فيه وأتكل على غريزتي الخاصة من دون حسابات".
لم يحتج برتون إلى أكثر من حفنة أفلام في بداياته لبلوغ مستوى عال من الحرفة والصنعة. قدم شيئاً مختلفاً في فترة منتصف الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حيث كانت السينما تحتاج إلى صوت جديد من خارج الأصوات المعروفة. جاء ليفرض عالماً موازياً مصدره الأساس دهشته للوحوش، ولكل ما هو مهمش وغريب ومنبوذ. هكذا صنع أميركاه التي اختلفت جذرياً عن أميركا الكوميديات الرومنطيقية وأفلام الحركة. أميركاه أشبه بالفارس المقطوع الرأس، الذي على الرغم من أنه بلا رأس يواصل ركوبه الحصان. الساحرات والأشباح والقردة والروبوتات شخصيات أخرى من عالم فانتازي انغمست فيه سينماه ذات النزعة إلى الحكاية. يرى برتون أن كل شيء لديه يأتي من "الجميلة والوحش"، حكاية حب مستحيلة ستبقى هاجس أعماله إلى الأبد.
تأثر برتون في طفولته التي أمضاها في ضواحي بوربانك (كاليفورنيا)، بالأفلام التي تبهر البصيرة، عن طريق طغيان الجو العام على الموضوع وتسلسل الحوادث. وعندما وقف خلف الكاميرا، أنجز أفلاماً أبطالها انعكاس لشخصية المخرج وهو في سن المراهقة: ضعيف، ملامحه صفراء، شعره غير مسرح، منطو على ذاته، انفعالي، صاحب قلب نقي. ولطالما فضل الشخصيات المعقدة نفسياً التي تنحاز إلى الشر على تلك التي تعرضها السينما الهوليوودية. والشرير عند برتون نقيض البطل، يمثل الطرف الغامض، الخطير الذي يمتلك في داخله نزعة للقتل. أما الأبطال الذين يتفوقون على الشخصيات الشريرة فهم الذين احتفظوا في داخلهم بروح الطفل، مثل البطل في "مغامرة بي وي الكبيرة" و"إد وود". هناك نوع آخر من الأشرار عند برتون: شخصيات مرغمة على الشر وغير قادرة على الهروب من قدرها. دائماً الشرير في أفلامه هو شرير رغماً عنه.
مسار فريد
أحيط برتون باكراً بتقنيين وممثلين كانوا يشكلون أثناء كل تصوير عائلته الحقيقية. فالعالم الذي شيده في حاجة إلى وجوه وعلى الوجوه أن تتكرس داخله، كما أنه نجح في توطيد صداقته بمعبود شبابه الممثل فينسنت برايس، حد أنه أصبح والداً ثانياً له. بدأ التعاون بينهما في فيلم قصير، ومذاك أصبح برايس مصدر إلهامه. دائماً أتقن الاستماع إلى الممثلين الذين يتعامل وإياهم. ظل بعيداً من السينمائيين الذين لا يتوقفون عن إعطاء الأوامر للممثلين بل يفسح في المجال أمامهم لإبداء آرائهم. ولعل ذلك سبب وفاء الممثلين له. فنراهم يعاودون التجربة إلى جانبه بضع مرات، ومن هؤلاء جاك نيكلسون وداني دو فيتو ووينونا رايدر، كما أنه أسهم في شهرة جوني دب الذي كان انطلق فنياً بإطلالة خجلى في التلفزيون، فأصبح مع الوقت بديلاً لبرتون ("ألتر إيغو") في ظهوره على الشاشة.
حظي تيم برتون باستقبال الأباطرة خلال مشاركته في ليون. فهذا ليس جديداً: قلب فرنسا لطالما هتف لسينماه. في حديث خاص مع مدير مهرجان لوميير، تييري فريمو، تحدث عن برتون قائلاً، "جاء بصوت ووجه وخيال متفرد مما جعله سينمائياً مهماً في التاريخ، وهذا ما دفعنا إلى تسليمه جائزة لوميير". في ليون، شارك برتون في نشاطات كثيرة كان التزم المشاركة فيها، منها إعادة تمثيل فيلم "الخروج من مصنع لوميير" للأخوين لوميير، وهو أول فيلم في التاريخ، هذا التقليد يقام كل سنة خلال المهرجان في المكان الذي صور فيه عام 1895، وسبق أن شارك فيها سكورسيزي وألمودوفار وتارانتينو وغيرهم، هذا العام مخرج "الريمايك" كان برتون، وقد أعاد التصوير ثلاث مرات قبل أن يرضى عن نسخته. أما درس السينما الذي قدمه في مسرح السيليستان، فكان ضرورياً لفهم أعماق هذا الفنان. كثر انتظروا لساعات أمام المسرح قبل انطلاق الدرس، ولم يحالفهم الحظ في حضوره. برتون الذي تأثر كثيراً بهذا الاستقبال، أمضى ساعة وثلث الساعة يتحدث عن بداياته ومصادر وحيه وكل ما تشكل منه عالمه السينمائي.
طفولة سينمائية
توقف عند طفولته الرتيبة الخالية من أي مفاجآت، حيث السينما كانت الوسيلة الوحيدة لمواجهة الملل. أضحت الأفلام علاجاً له. كانت تغذي أحلامه. الصالات المظلمة جعلته يشعر بأنه ينتمي إلى جهة ما. منذ نعومة أظفاره، أحب أفلام الوحوش والمخلوقات الغريبة. كم ود أن يكون غودزيللا، كما اعترف خلال الدرس. كان يحلم لو استطاع ارتداء واحدة من تلك البذات ويدمر طوكيو! خلافاً لغيره من الأطفال، لم تخفه هذه الأفلام، بل كان له تجاهها إعجاب تحول لاحقاً إلى تعاطف مع الوحوش. واليوم، يصف علاقته المتينة بالوحوش بـ"النفسية والجمالية". روجر كورمان وماريو بافا أثرا فيه كثيراً. ولا يخفي كذلك أن حساسيته أوروبية أكثر منها أميركية. يقول إن أفلام الرعب التي أنتجتها "يونيفرسال" صحيح أنها صورت في أميركا، لكن مخرجيها كانوا أوروبيين. ولطالما شعر بعلاقة ما تربطه بالسينمات اليابانية والفرنسية والإيطالية، ثمة ديناميكية سينمائية فيها حملته بعيداً.
قال برتون، إن مسيرته اتسمت بالغرابة لأنه انطلق من "ديزني" ثم أنجز بضعة أفلام قصيرة، لكن بعد فيلمه الأول، "مغامرة بي وي الكبيرة"، لم يشتغل سوى مع الاستوديوهات. "مسيرتي غريبة لأنني حظيت بنوع من الحرية، خصوصاً أنهم لم يكونوا يفهمون ماذا أفعل. على الرغم من كل شيء، حرصت على شق طريقي وصولاً إلى السينما المستقلة، ولكن عبر أفلام الاستوديو. فأصبحت شخصية غير مألوفة. عندما بدأت، لم يكن هناك كثر على شاكلتي".
بعد النجاح الجماهيري المدهش الذي ناله "باتمان" في عام 1989، مشرعاً الباب لظاهرة أفلام الـ"سوبر أبطال" في العقود اللاحقة، بدت علاقته مع أقطاب الاستوديوهات الهوليوودية تتغير. "عندما بدأ اسمي يلمع بدأت المضايقات. صرت أشعر أنهم يعاملونني كسلعة بدلاً من معاملتي كفنان. أفلام كثيرة لي حققت إيرادات كبيرة، لكن في المقابل مشاريع كثيرة رفضت، منها مشروع نسخة ثانية لـ"رجل بقناع شمع" مع مايكل جاكسون. يعتقد الناس أنه يمكنني فعل ما أريد، لكن لم يكن الأمر بهذه السهولة في مرحلة ما".
رغم كل ما عاشه في هوليوود، يحافظ برتون على شيء من التفاؤل: "في السابق، كان الفنانون هم الذين يديرون الاستوديوهات، ثم جاء المحامون ومن بعدهم المحاسبون… لكن حالياً ألمس تغييراً في هذا المجال، إذ هناك أشخاص يحبون السينما يسجلون عودتهم إلى إدارات الاستوديوهات".