جائحة الفساد: الاختبار الأكبر
5-تشرين الثاني-2022
مصطفى ملا هذال
قيل ان الأمثال الشعبية تضرب لكي تُقاس بها حالة معينة، وقيل أيضا، لا مقايسة بالأمثال، وبين هذا وذاك يحضرنا المثل الشعبي الذي يقول، (حاميها حراميها)، انطبق هذا المثل بصورة كلية على عملية تهريب النفط من قبل عصابات خاصة بعمليات التهريب، باشتراك وتواطئ، ضباط امنيين كبار وظيفتهم الأولى والاساسية هي حماية المشتقات النفطية من النفوس الضعيفة ومنع تهريبها خارج الضوابط القانونية وسلطة الدولة!
تتحدث الحكومات السابقة عن الفساد وعن عزيمتها في القضاء عليه، وفي المقابل تجذرت هذه الظاهر واستشرت حتى وصلت في السنوات الأخيرة الى ذروتها وتمكنت من جعلها ظاهرة سائدة بين النخب السياسية وأصحاب المناصب الحساسة الذين يساومون ويعملون المستحيل من اجل نيل وزارة ما او منصب حساس يدر عليهم بالأموال.
ولو تتبعنا جميع الحكومات السابقة، لرأيناها تجعل أولى خطوتها والتي تسعى لنيل رضى الشارع فيها، هو محاربة وفضح الفاسدين الذين أخروا البلد عن التطور كثيرا، حيث تذهب اغلب الميزانيات الانفجارية الى جيوب الشركاء القادرين على تسوية الأمور وفق المخارج الرسمية والقانونية، وبالنتيجة يبقى الشعب يعاني بل تزداد معاناته يوما بعد آخر.
الفساد في العراق يمكن ان نصفه بالجائحة المدمرة التي تضربه من بين البلدان بين الحين والآخر، وهذا لا يعني ان الدول الأخرى خالية من الفساد، لكن مع فارق انها تعاملت مع الجائحات المشابهة لهذه بصورة ذكية واستطاعت ان تجد لقاحات تخفف من مخاطرها، اما العراق فلم يتمكن والى الآن ان يجد حلا جذريا لمنع جائحة الفساد المسيطرة على المؤسسات الحكومية دون استثناء من التمدد والانتشار.
تُرى ماهي الأسباب وما هو الحل؟
من بين الأسباب التي جعلت المال العام في العراق يتدحرج بين الأوساط السياسية والمتنفذين، هي قلة الرقابة المالية، ويمكن ان نقول غيابها، ففي العراق يمكن لأي متنفذ في الحكومة ان يمد يده على الأموال المرصودة لخدمة الشعب ويتم الامر دون شعور الجهات الرقابية او بغض طرفها لقاء نسبة مرضية.
ويأتي ضمن الأسباب الرئيسية لشيوع ظاهرة الاستيلاء على المال العام، هي حاجة الاحزاب الماسة لبناء المجد الزائل او الزائف، المجد القائم على اغتصاب حقوق الآخرين ومنعهم من العيش براحة وسلام كغيرهم من شعوب العالم، فتجد السياسي الذي يتقلد منصبا معينا يسعى ويكثف جهده لاستثمار أيامه لجمع أكبر قدر من الأموال وتحويلها الى رصيده خارج البلد او في الداخل عبر تنزيلها في حسابات وهمية.
وكذلك من الأشياء المساعدة على انتشار الفساد، عدم كشف الفاسدين او المتورطين بالعمليات المشبوهة، كون من يشترك بحياكة القضايا الثقيلة اغلب الرؤوس السياسية الكبيرة سواء بطريقة مباشرة او لا، ومن الطبيعي تحاول هذه الجهات ان تُستر على خطيئتها وتبعد الشبهات عنها للحفاظ على ماء وجهها امام جمهورها.
وفي وضع مثل العراق وما يعيشه من استشراء للفساد بصورة غير مسبوقة، يبقى امام رئيس الحكومة الحالية أساليب غير تقليدية للقضاء على هذه الظاهرة المستفحلة، اهم هذه الإجراءات او لنسمها مراحل الكشف عن مكامن الفساد، هي محاسبة المتورطين وفق مذكرات قانونية واضحة تنشر بصورة علنية امام الشعب والرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، وبالتأكيد هذه الخطوة ستُصفر الرصيد السياسي للجهة التي تنتمي اليها الشخصية الفاسدة.
ثاني هذه المراحل هو متابعة الملفات وكشف المستور امام الجمهور، ولهذه الخطوة بالتحديد فائدة على المستوى العملي، فيمكن من خلالها ان يحصل على الدعم الشعبي ويضع الشخصيات المطلوبة تحت دائرة المراقبة، وأيضا يجعل الكرة بمرمى الجهة المقابلة التي تقف وراء مثل هذه الشخصيات، ومن المؤكد ان يحدث هذا الأسلوب تغيير في حصد النتائج الإيجابية.
إبقاء الأمور المتعلقة بعمليات الفساد تسير بنوع من الغموض، يجعل من الشك يساور الملايين من أبناء الشعب، ولنأخذ على سبيل المثال القضية المسماة بسرقة القرن، ما يعرفه الافراد من معلومات حولها، هو مجرد القاء القبض على المدعو نور زهير، وبعض الشخصيات المتورطة، ولن تطلع الجهات الحكومية الإجراءات الأخيرة في هذا الخصوص.
إطلاع المواطنين بالخطوات اليومية او المتعاقبة بهذا الملف وغيره من الفساد يعيد الامل ويبني جسور من الثقة بين الحكومة والشعب، وبعدها تختفي الأصوات المشككة بعمل الجهات القضائية والرقابية في البلد، على الرغم ان ذلك التشكيك هو وليد حالات مماثلة وعدم التوصل الى نتائج لإعلانها امام الرأي العام.
ولا يمكن لشخص السوداني وفريقه الحكومي ان يتقدم بالاتجاه الصحيح دون العمل أولا على تنقية الأجواء الحكومية من الشوائب المتمثلة بالمستفيدين من الأموال الشعبية، ومن يحتاج الى التصفية السريعة هو الجهاز الأمني المسؤول عن حفظ الأموال الوطنية وعدم تبديدها والتفريط بها كونها حقوق جميع العراقيين المحرم الاعتداء عليها.
القضاء على الفساد او الحد منه هو الاختبار الحقيقي لهذه الحكومة التي بدأت تؤسس لبناء مؤسسات حكومية عازمة على تحقيق تطلعات جمهورها، في استرداد الأموال المنهوبة والحفاظ على المتبقي، ليسهم في تنمية الجانب الاقتصادي والعمل على فتح آفاق جديدة على العالم الخارجي.