د. جليل واديي
ما أن تسير عليه حتى ينسيك همومك ومشكلاتك، ويشعرك بالراحة والتفاؤل ليعبر بك نهرا عذبا صالحا للشرب من دون تعقيم، ويدخلك في غابات كثيفة تتلمس خلالها الأغصان الرشيقة الباحثة عن ضوء الشمس وانت على ارتفاع سبعين مترا، هذا هو جسر (النسيان)، وهي التسمية المجازية التي أطلقت على جسر (كابيلانو) الواقع في الساحل الغربي لمدينة فانكوفر الكندية.
ما أحوجنا لمثل هذا الجسر، بنينا جسورا كثيرة، لكنها لا تنسيك شيئا من الهموم أبدا، بل تذكرك حتى بالمنسي منها، والسياسة أول ما يحضر في بالك، فتذكرك بسياسيين تحمد الله انك تحررت من سطوتهم، وآخرين لم تكن تتمنى رؤية وجوههم، هكذا هي جسورنا للعبور فقط، وليس للجمال وبث روح البهجة في العابرين، بل يداهمك الاحباط واليأس وانت ما زلت على متنها، لم أر جسرا وقد صار تحفة فنية يتجمع الناس حولها وفوقها للاسترخاء والتقاط الصور التذكارية، ربما نتصور عندها لنوثق لأنفسنا، وليس توثيق لمكان كنا فيه، ونريده أن يعلق بالذاكرة .
تصادفك على بعض جسورنا من الغرائب الكثير، وكأن من صممها لا يتمتع بحس جمالي وذوق فني، وغابت متعة الناس عن تفكيره، مع ان بناء الجسور في العالم لم تعد وظيفتها العبور الى الضفة الأخرى فحسب، بل أصبحت الوظيفة الجمالية تقترب في أهميتها من وظيفتها الأولى، فما الذي يعوق التفكير بجمالية الجسور والمجسرات في بلادنا غير ضآلة الثقافة الجمالية للمهندسين. والا بماذا نفسر قبول مصمم أحد الجسور وضع انبوب ضخم لنقل المياه على رصيف الجسر بما أفقده جماليته وضايق السابلة في سيرهم، او انشاء سياج من مادة (البي آر سي) على أحد الجسور لم يصمد شهرا، فسقط ليصير مثار تندر لكل من رآه، بالرغم من ان هذه الأسيجة جاءت بالأصل لتجميل الجسر ومقترباته، لكنها كانت قبيحة الشكل والمنظر، فضلا عن عدم توفيرها الحماية للمركبات في حوادث السير .
حدثني ذات مرة المهندس مؤمل علاء الدين ابراهيم في أول يوم من مباشرته العمل رئيسا لجامعة ديالى بأن كليات الهندسة تفترض استحداث كليات للفنون الجميلة بغية التكامل بين ما هو وظيفي وما هو جمالي، وتعزيزها بمقررات دراسية ذات طابع فني، وهذا ما تحقق لاحقا في جامعة ديالى، بما يؤكد أهمية الفن الجميل بالنسبة للهندسة المعمارية، ومع ان في بلادنا الكثير من كليات الفنون الجميلة والعديد من كليات الهندسة، لكن تجسيدا للجمال في الواقع لم يتحقق، فما زلنا نعاني تلوثا بصريا جراء البنايات والجسور والحدائق العامة والشوارع الرئيسة وغيرها .
في دول العالم توجد هيئة للتجميل في كل مدينة، يتألف أعضاؤها من خيرة الفنانين والأدباء والمهندسين، وتكمن مهمتها في ابتكار ما يجعل المدن جميلة في مختلف المجالات من الحدائق الى المباني، بينما لم نر لمثل هذه الهيئة وجودا واقعيا في بلادنا، بل تأتي عمليات التجميل لدينا في ضوء تصورات ارتجالية لصاحب القرار الذي ليس بالضرورة أن تكون تصوراته صائبة، لكن المجاملة وتميّع المعنيين مع ما يذهب اليه المسؤولون جعل الجميل من مدننا نادرا .
الجسور غدت وجهة سياحية، فالملايين من السياح سنويا يقصدون اسطنبول لرؤية جسر (البسفور) والمرور من تحته على ظهر سفينة سياحية، وما يقرب المليون سائح يقصدون جسر (النسيان)، ومثل هذه الأعداد يستقطبهم جسر (البرج) في لندن. وبالرغم من بساطة جسر (الطبيعة) في طهران، لكن البلدية تمكنت من توظيفه وجعله وجهة للسياحة المحلية بالدرجة الأساس، وربما هناك ما هو أجمل من هذه الجسور مما لم تتح ظروفنا رؤيتها. نريد أن ننسى، فقد قضينا العمر ونحن نتلّوع من تخريب السياسة لحياتنا، مَنْ يمحو البائس من ذاكرتنا ويملأها بالبهيج؟ فذاك هو جسرنا للمستقبل.