جيمي وجانيس
29-نيسان-2023
ريبيكا روث غولد*
وصل إلى المملكة المتحدة، قادما من سوريا، قبل منتصف الليل. ولكن فاتته الحافلة التي حجز تذكرته عليها لينتقل من هيثرو مباشرة إلى شقتها في مدينة بريستول. وكانت في منتصف المدينة تماما، في زقاق كولستون، قرب التمثال الذي تداعى مؤخرا. وقد صورت له المشهد عدة مرات من قبل. حين كانت في دمشق كانت تسمي بريستول النجم اللامع. وتعتقد أنها جوهرة مخفية، ولم يغرقها السياح حتى الآن بجحافلهم مثل لندن. ومع أن الطائرة وصلت بموعدها، ضل طريقه إلى محطة الحافلات المركزية في الرصيف رقم 5. ولكنه لم يفقد شيئا: وتحمل الفوضى واليأس، وتمكن من اللحاق بالحافلة التالية بعد ساعة.
أما هي فقد كانت تسهر بانتظاره. مرت الساعات، دون أن تتوقف عن القلق عليه، فهي زيارته الأولى إلى بلد غريب. وتساءلت إن كان بمقدوره أن يجد بيتها؟. وأزعجها أنها لا تستطيع الاتصال معه بالهاتف. ومع أن تعارفهما لم يستمر لأكثر من عدة شهور فقد أغرمت به غراما تحسب حسابه. وبعد آخر مرة واتاها هذا الشعور احتاجت لعدة سنوات ليلتئم جرح الفراق الذي أعقبه، مثلما يأتي الليل في أعقاب النهار.
تساءلت وهي تتأمل الشوارع الفارغة في الأسفل: هل أنا بانتظار كارثة جديدة؟. كانت تحب، في معظم الليالي، تأمل تلك الشوارع القروسطية الضيقة، والتي كانت موجودة في الحقبة الذهبية من الألفية، وتخيلتها مزدحمة بالعساكر وسوء الحظ والعاهرات والمثقفين ورجال الدين. والآن يبدو الشارع فارغا وكئيبا.
ولم يكن لديها وقت لمتابعة أفكارها حتى النهاية - فقد رن جرس الباب. نهضت ونظرت حتى استطاعت أن تميز شبحا في الأسفل. ها هو رجلها: الرقيق الذي قابلته في دمشق، يقف تحت نافذة تعلو على الشارع بطابقين. كانت عيناه واسعتين ويغشاهما القليل من التحسب، مثل غزال أصبح في دائرة الضوء. ورأت ابتسامته الملائكية كأنه خرج من مشهد في فيلم مصور. كما لو أن الحياة ليست مغمورة بالبؤس. وكأنه سمح لنفسه، في لحظة من اللحظات، أن يأمل بمستقبل جديد. وقبل أن يراها أسرعت عليه وعانقته.
كان يفكر بالنوم. ولكن أيضا أراد أن يسعدها، وكان يدرك أن إسعادها يتطلب مرافقتها حالا للتعرف على المدينة.
وأكدت فكرته. قالت له: “كنت بانتظار هذه اللحظة منذ شهور. من فضلك لا تخذلني".
رد بابتسامة ضعيفة: "يبدو أننا نعرف بعضنا البعض جيدا".
وكما جرى عدة مرات حينما كانا في دمشق، استسلم لها. ابتسم بضعف واستقبل يدها الممدودة. وانطلقا نحو "هاربورسايد"، ولم يكن بعيدا عن زقاق كولستون إلا بمقدار عدة شوارع، ومرا بالمكان الذي كان يستضيف التمثال سيء الذكر للنخاس إدوارد كولستون، حتى سقط في صيف عام 2020، حينما ثار العالم على مقتل جورج فلويد في مينيبوليس. كان السقوط بعد أسابيع قليلة. ثم ألقي التمثال في نهر إيفون الذي يمر بالمدينة، وكانت السفن المحملة بالسياح تعبر من فوقه نحو العالم الجديد.
قاطعت ذكرياتها عن بريستول وعادت إلى ضيفها. وقالت له: “اسمح لي أن أقدم لك مشروبا".
ابتسم برقة وضعف مجددا. لم يكن يحمل نقودا محلية، ولذلك لم يكن أمامه خيار. وتركها تحمل عبء الفاتورة. اجتازا المعبر الممتد على نهر إيفون، والذي غرق فيه تمثال كولستون قبل شهور. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل والمطاعم مغلقة وأرصفة المشاة مهجورة. والأشخاص القليلون في الخارج كانوا عائدين لبيوتهم، من حفلة ساهرة، مخمورين. وأخيرا بلغا نهاية الميناء. من جهة اليسار يوجد بار واسع وفارغ. وحروف النيون الحمراء "ثورة كوبا" واضحة فوق المدخل. التمع ضوء باهت من الطاولات الموجودة في الطرف الآخر من النافذة.
أفسح لهما الحارس مكانا للدخول. لم يكن هناك غيرهما. جلسا على منضدة منخفضة قرب براميل البيرة، وتبادلا نظرة ملتهبة بالحنين، وكل منهما يربت على يد الآخر. كان يوجد كل أنواع البيرة: كورونا، بودويزر، ستيلا مورغانا، أمستيل، أساهي. ولكنها لم تكن تريد أن تشرب. كان قد مر شهران تقريبا بعد آخر لقاء. وكان يبدو كما تتذكره بالضبط، حينما أغرمت به لأول مرة، في دمشق.
بحثا عن ركن منعزل بقرب النافذة وجلسا فيه متجاورين. وهناك لم يجد شيئا يكلمها عنه غير رأيه حول الشعر، وأهمية الوزن. وكان يعتقد أن أبيات الشعر في أي قصيدة تشبه فراق الأحبة. وقال لها:" مثل تقطيع رغيف الخبز إلى كسرات متساوية".
ونظر نظرة عميقة في عينيها، كان ينقب فيهما عن الحب الذي تكنه له. وكانت هناك كلمة واحدة يمكنها التفكير بها لوصف موقفه نحوها آنذاك: الهيام. وكانت هيئته تشبه بالنسبة لها التعرض لصدمة كهربائية. كأنهما في دمشق مجددا، ولكن بعد زيادة اكتشاف كل منهما لخبايا الآخر. مع فهم أعمق لنفسها، ولحدود طاقاتها، ولميولها الفطرية التي تورطها بالحب سريعا.
قالت: “اشتقت لك كثيرا". ثم مدت يدها وضغطت على يده.
جاء من الخلف نغمة صوت رجولي عميق، ورافقه عزف على الغيتار. وكان الصوت يقول: والرياح تصيح، يا ماري. نقلت نسمات الهواء رنات رخيمة من أوتار جيمي هيندريكس وكانت مثل ذكريات مكبوتة، وقد عادت في لحظة غير متوقعة. تذكرت طفولتها في الضواحي، حينما حاولت أن تعزف على الغيتار مثل هندريكس. سألته عن رأيه بهندريكس. وهل ينظر لموسيقاه كما تنظر إليها؟.
رد يقول: “لا بأس. ولكن دائما أحبذ جانيس جوبلين. طريقتها بالغناء تسحرني حتى الجنون. تمنحني العزاء، وتضعني بجو عالم أفضل".
قاطعته بقولها: “ولكن بين جانيس وجيمي أشياء كثيرة مشتركة. كلاهما مات شابا. في السابعة والعشرين".
وافق بحركة من رأسه وقال: “كلاهما من جماعة السابعة والعشرين". وبعد لحظة صمت أضاف: “وكلاهما محظوظ".
بعد مرور وقت كاف على رحيله تذكرت ذلك الحوار. لحظة حب مشرقة تفتحت بينهما كالوردة ولكن لفترة عابرة. وقد توقعت، منذ بداية علاقتهما، أنه سيكون حبها الوحيد. وخمنت أن حبهما يشبه القبة. وهو لم يكن ينتظر شيئا غير لحظة خرابه وتحطيمه، كما جرى لرموز أيام الطفولة، جيمي وجانيس. اختلفا وتباعدا، ومع ذلك كانا متماثلين من عدة جوانب.
انتظرا في البار حتى بزوغ الفجر، وهما متماسكان بالأيدي. وفي ضوء الصباح البارد، تبادلا الذكريات. هو أخبرها عن الأغنيات التي كان يفضلها في سنوات مراهقته في دمشق، حينما كان الجميع يحلمون بالهجرة إلى أمريكا. وهي روت له عن فترة بلوغها حين كانت تعيش في سيتروس هايتس، الضاحية التابعة لسكرامينتو والتي يقطن فيها غالبا حثالة العرق الأبيض، ولكن بالتدريج زحف عليها أغنياء الطبقة الوسطى.
قالت: “شيء غريب أننا نستمع لنفس الموسيقا ولكن نعيش في عالمين مختلفين تماما".
ولم تسأله كم سيطول زمن حبهما. ولم تستفسر منه عن الفترة التي سيكون خلالها موجودا معها. كان كلاهما يبدو حساسا وضعيفا أمام مكاشفات من هذا النوع. وقد فعلت ما بوسعها للتعايش مع هذه اللحظات التي تمر وتنقضي، وهي تعلم أنها قد لا تستمر حتى نهاية العمر. ولكن عزت نفسها: لا شيء على وجه الأرض يستمر إلى الأبد.
وكانت مدركة أنه موهوب. وتعلم - على الأقل - أنه مثل جيمي ومثل جانيس، هو شهاب سيرتفع قريبا إلى ما بين النجوم. وأشخاص من هذا النوع لا يعيشون حياة طويلة، وكذلك لا يحتملون فكرة عشق أو غرام أبدي.
وفي إحدى المرات أخبرها :"الفن شقاء ولا يضمن السعادة لأحد".
هذه ترجمة قصة Jimi and Janis
ريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould كاتبة أمريكية وأستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في جامعة برمنغهام.
ترجمة: صالح الرزوق