حميدة أبو هميلة
ما الرابط العاطفي الممتد بين المآسي الوطنية والأغنيات؟ وما السر الذي يمنح الأناشيد التي تتحدث عن التضحيات والصمود والمقاومة والميراث القديم من الحزن على الأرض هالة من الوهج ليحملها جيل من بعد جيل؟
ربما لأن الأغنية هي الفن الأكثر سرعة، وهي هنا تتفوق على المسلسلات والأفلام، فصناعتها لا تستغرق وقتاً طويلاً، ومع صوت عذب ولحن شجي فهي تضمن الانتشار السهل والممتد أيضاً، ومع كل العثرات والنكبات التي منيت بها القضية الفلسطينية كانت محظوظة بوجه خاص في الأعمال الغنائية التي عبرت عن آمال الشعب الفلسطيني وعن مشاعر المؤازرة من المؤمنين بها.
وعلى مدى أكثر من سبعة عقود حظيت القضية باهتمام خاص في هذا الجانب سواء من المطربين الفلسطينيين أو من بقية الدول العربية، لكن هل خَفت تأثير الأغنية الوطنية التي تعبر عن القضية خلال الأحداث الأخيرة في غزة، أم أنه لم يعد هناك رغبة في متابعة عمل غنائي عن كارثة لا تزال فصولها ماثلة أمامنا وتتجدد كل لحظة عبر تقنيات البث المباشر، ولماذا لم تلق الأعمال التي صدرت أخيراً الاهتمام نفسه الذي صاحب نظيرتها في أزمات مماثلة سابقة؟
يعتقد البعض أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فقديماً كانت الأغنية تصدر فيما أخبار القصف وصور الضحايا لم تكن تعرض لحظة بلحظة على الهواء مباشرة مثلما يجري الآن، بالتالي تبدو كل المحاولات أصغر كثيراً وأقل من الموقف، فعلى رغم تعدد الأغنيات التي طرحها مطربون عرب خلال الأيام الماضية للتعبير عن تمسكهم بالحق الفلسطيني ورفضاً للانتهاكات المتوالية من الجانب الإسرائيلي، إلا أن أياً منها لم يجد الصدى الإعلامي والانتشار الجماهيري حتى الآن، فيما لا تزال نظيرتها القديمة لها قيمتها وحضورها.
النكبة وما بعدها
لطالما ارتبطت القضية الفلسطينية بمجموعة من أجمل الأغنيات التي استعرضت مأساة الشعب وحلمت بحق العودة، وسجلت المذابح التي أريقت فيها دماء أبرياء، وكانت كلماتها تحكي قصصاً عن تاريخ الأرض وتعد بالاستمرار في المقاومة وترسم أملاً للأجيال الجديدة، وتطمئن النازحين والمهجرين، كما حملت كلماتها تفاصيل الطابع الديني الروحاني الاستثنائي للبلدان الفلسطينية، وشكلت حضارة كاملة باللحن والصوت والكلمات.
كانت للسيدة فيروز مع الأخوين رحباني مجموعة من أشهر الأعمال التي يتم استحضارها مع كل انتفاضة للشعب الفلسطيني بينها "زهرة المدائن" و"القدس العتيقة" و"جسر العودة" و"سنرجع يوماً"، فمنذ ستينيات القرن الماضي وفلسطين حاضرة في ذاكرة فيروز وحنجرتها، إذ تميزت أعمالها بأنها تركز على التنوع الديني الذي تتميز به القدس، وتشدد على روحانية تلك الأرض.
قبلها قدمت أم كلثوم أعمالاً عدة بينها "طريق واحد"، و"أصبح عندي الآن بندقية". ومن أشهر أغنيات عبدالحليم حافظ التي عبرت عن الموقف الشعبي من القضية كانت "على أرضها نزف المسيح" عام 1967 من كلمات عبد الرحمن الأبنودي، وألحان بليغ حمدي.
فيما كان محمد عبد الوهاب من أوائل من عبروا عن التضامن بأغنية حماسية تدعو للجهاد والمقاومة وهي أغنية "أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا" وذلك عقب نكبة 1948.
يرى الأكاديمي المتخصص في النقد الموسيقي الدكتور إيهاب صبري، أن النوستالجيا قد تكون من العوامل الأساسية المسهمة في ثبات تلك الأعمال في الذاكرة، إذ تمكنت الأغاني القديمة التى تتبنى دعم القضية الفلسطينية من مخاطبة الوجدان والمشاعر الإنسانية وأن تصنع حالة من الحنين إلى الماضي، وكم كان الأجداد يدافعون عن الوطن بكل حياتهم، واستطاع عدد كبير من رواد الأغنية أن يقدموا هذا النمط الفني المعبر عن الوجدان القومي والنزعة الوطنية، ومنهم الشيخ إمام فى أغنية، "يا حكاية كل الناس"، ومحمد قنديل في "غزة"، و"شعبك راجع يا فلسطين". كما قدم "يا ويل عدو الدار" وغيرها.
وأشار صبري إلى أن عدداً كبيراً من المطربات والمطربين قدموا أغاني داعمة للقضية الفلسطينية، ففى أوقات كثيرة يستطيع الإنسان أن يشعر بالحنين لأرضه ووطنه من خلال الاستماع إلى تلك الأعمال الغنائية ذات الطابع والملامح الوطنية.
أين غاب وهج الأغنية الجديدة؟
بدو الوضع حالياً وكأنه نكبة جديدة وفي ظل مشاهد مروعة تعرض على مدار الساعة لم يعد هناك وقت لمتابعة شيء آخر والتمعن فيه، فلا توجد فواصل كافية بين كل لقطة مؤلمة وأخرى، فهذا رضيع يحتضر في مستشفى فقد مقوماته بفعل الحصار، وتلك أم مكلومة، وهذا رب أسرة فقد من يعيلهم، بالتالي تبدو الوقائع على الأرض أكبر بكثير من التعبير عنها بأبيات شعرية في الوقت الحالي، ومع ذلك حرص عدد من مشاهير الغناء على التعبير عن موقفهم بأعمال موسيقية بينها "راجعين" التي ضمت 25 مغنياً من نجوم الموجة الجديد بينهم أمير عيد ودينا الوديدي ومروان يونس ومروان بابلو، إضافة لبعض مطربي شمال أفريقيا الشباب، وتم التبرع بأرباح بث العمل لصندوق إغاثة غزة.
أصدر هاني شاكر أيضاً أغنية "الهوية عربي"، وعلي الحجار طرح "من فوقنا من سابع سما" وزياد برجي قدم "فكروا فينا"، وعزيز الشافعي أصدر كذلك أغنية "يا ضمير العالم"، كما حرصت الفنانة ديانا كرزون على طرح أغنية "الشعب البطل"، كما طرح أحمد سعد أغنية "غصن الزيتون"، ومحمد عدوية شارك أيضاً بأغنية جديدة تحمل عنوان "أرض غزة"، وتشاركت سلمى صباحي مع المغني محمد خلف أغنية "فلسطين في تكويني".
ومن أكثر الأعمال اختلافاً تلك التي أهداها مجلس القبائل والعائلات المصرية بعنوان "فلسطين عربية"، وهي ذات طابع حماسي وتشبه الأغنيات العسكرية، وبدا ذلك واضحاً في طبيعة إيقاعها كذلك والصوت القوي المتوعد الذي سيطر عليها.
الغناء الشعبي أيضاً كان له نصيب، إذ أدى المغني أحمد شيبة أغنية في هذا السياق بعنوان "قاتلني وجاي تقول لي شالوم"، كما شاركت الفنانة هند عبدالحليم مع المغني محمد جمال في أغنية "موطني" وطرحت كفيديو كليب، وهي النشيد الوطني الفلسطيني غير الرسمي الذي لطالما ارتبط بالقضية، وهو من كلمات إبراهيم طوقان، وألحان محمد فيلفل، سبق وأعاد غناؤه كثيرون بينهم إليسا.
لكن من سيترك حرباً دائرة على مدار الساعة تعرض لقطاتها المحزنة لحظة بلحظة، ليجد متسعاً للأغاني التي تصف له هذه اللقطات، فعادة يختار المتابعون أن يتقصوا ما يجري أولاً، ولتأت الأغنيات في ما بعد، التي قد يعاد اكشتافها ولكن بعد أن يهدأ الواقع على الأرض، أم أن توثيق الحدث غنائياً ضرورة لابد منها؟
يرى الناقد الفني الدكتور أشرف عبدالرحمن أن من الخطأ الاعتقاد بأن الأغنية جزء من الرفاهية، لافتاً بالطبع إلى أن المشاهد الدامية تكسر قلوب المشاهدين، ولكن على رغم كل هذه المرارة فإن توحيد وجدان الجمهور العربي من خلال عمل فني أمر في غاية الأهمية، وشرح عبدالرحمن وجهة نظره حول قيمة الفن في أكثر الحقب حزناً بالقول، "الشحنة العاطفية الفنية كانت حاضرة على الدوام في تاريخنا العربي حتى في أحلك الظروف مثل نكسة 1967، فمن ينسى حينها أغنية عدى النهار لعبدالحليم حافظ، إضافة إلى أغنية المسيح التي قيلت على لسان شاب فلسطيني وأداها حليم ولا تزال ساكنة في القلوب، إذ قدمت في الفترة نفسها، ولكنها عرفت الشهرة مع نهاية الستينيات، وعلى رغم اختلاف الوسائط حالياً وتغير المقتضيات بحكم العصر، لكن المؤكد أن أي حدث تاريخي مهم كان سلبياً طول القرن الماضي حرص العرب على توثيقه بالفن وخصوصاً الأغنيات، فحتى ثورة 1952 تم تلخيص مبادئها بأعمال فنية شهيرة محفوظة عن ظهر قلب".
أكثر تأثيراً من السياسة
الملاحظ أنه على مدار عقود أصبحت الأغنيات التي تعبر عن توجه موقف المطربين العرب لفلسطين، كأنها بمثابة صك للوطنية، إذ إن أشهر المغنيين في المنطقة قدموا أعمالاً في هذا الصدد وازدهرت انتجاتهم بشكل خاص تزامناً مع الانتفاضات التي يقوم بها الشعب الفلسطيني في مواجهة الجانب الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، ومن أكثر الأغنيات حماسية تلك التي أدتها جوليا بطرس عام 1987 بعنوان "وين الملايين" إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فيما لا تزال أغنية "سقط القناع" المأخوذة من قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وكأنها نشيد وطني تؤديه الفنانة ماجدة الرومي في أغلب حفلاتها، على رغم تعدد أغنياتها لفلسطين، ولكن يبقى هذا العمل بمثابة رمز فني مهم بالنسبة إليها منذ أن أطلقته منتصف تسعينيات القرن الماضي، تزامناً مع مقتل عشرات المصلين في الحرم الإبراهيمي بالخليل بالضفة الغربية المحتلة على يد إسرائيلي قيل وقتها، إنه متطرف.
ومع مطلع عام 2000 كانت هناك موجة كبيرة من أغنيات القضية، بينها أوبريت "القدس هترجع لنا" الذي قدمه مجموعة من الفنانين على رأسهم هدى سلطان ونادية لطفي، الذي عبر فيه نجوم مصر عن غضبهم عقب الاغتيال الإسرائيلي المتعمد للطفل الصغير محمد الدرة، حينما كان في حضن أبيه، حيث لم يستجب القناص لإشارات الأب المتوسلة، وعقب انتفاضة الأقصى أو الانتفاضة الثانية التي شهدت مواجهات عنيفة وتزامنت مع دخول وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون باحة المسجد الأقصى وجدت أعمال فرصتها للشهرة، بينها أوبريت "الحلم العربي" الذي كان قد طرح عام 1998، ولكنه حقق انتشاره الأكبر في تلك الفترة، اشترك في أداء مقاطعه عدد ضخم من نجوم الوطن العربي وكان يتناول مآسي عربية عدة ويدعو للتوحد والقوة في مواجهة الطغيان.
في هذا التوقيت قدم عمرو دياب أغنية "القدس دي أرضنا"، وكان للفنان علي الحجار مشاركات عدة منها "فلسطيني" وقدم هاني شاكر "على باب القدس"، وقدمت آمال ماهر "عربية يا أرض فلسطين"، وبعدها أدت أغنية "أختي وفاء"، كما قدمت أصالة أكثر من عمل أيضاً بينها "أولى القبلتين، و"أيها المارون بين الكلمات العابرة"، وهي قصيدة شهيرة لمحمود ردويش غنتها المطربة السورية كشارة لمسلسل صلاح الدين الأيوبي.
وعلى ذكر محمود درويش فقبل أشهر قليلة فقط طرحت المطربة اللبنانية كارول سماحة ألبوماً يتضمن أكثر من 10 قصائد تحمل توقيعه بعنوان الألبوم "الذهبي"، بينها "فكر بغيرك" و "سأصير يوماً ما أريد"، و"اعتذار"، إضافة إلى "المارون بين الكلمات العابرة".
على مدى مشواره طرح الفنان كاظم الساهر أكثر من عمل وطني تغنى من خلاله بمدن عربية عديدة، لا سيما وطنه العراق إبان الحصار ثم بعد الغزو الأميركي، كذلك غنى لفلسطين "يا قدس يا مدينة السماء"، كما قدم مع لطيفة أغنية "القدس مدينة الأحزان" للشاعر نزار قباني، كاظم الساهر أعلن أخيراً أنه يعمل على أغنية جديدة حول الأحداث يذهب ريعها للجهود الإنسانية في غزة، وهذه المرة باللغة الإنجليزية، إذ يتعاون فيها مع جمعية الأمم المتحدة للموسيقى الكلاسيكية وهي تحمل عنوان "Hold Your Fire " وبحسب تصريحاته فهي تهدف لتسليط الضوء بشأن الكارثة الإنسانية في غزة وتبث رسالة للعالم لإيقاف العنف الذي يمارس ضد الأبرياء.