حريقان في مسار غوغول واحد فتح باب الأمل والثاني أعلن نهاية كتاباته
15-تموز-2023
إبراهيم العريس
لا شك أن المسار المهني في ارتباطه بحياة الكاتب الروسي، بل حتى الأوكراني إذا شئنا الدقة، نيقولاي غوغول، قد انطبع بالكثير من الغرائب والأمور التي لم تكن اعتيادية، ولعل في مقدّم تلك الأمور عجزه التام في نهاية الأمر عن إصدار الجزء الثاني الموعود من روايته الكبرى "الأرواح الميتة"، أو لنقل بالأحرى عدم رغبته في ذلك هو الذي وقع في سنواته الأخيرة تحت سلطان رجل دين يرى أي إبداع رجساً من عمل الشيطان. ومن هنا فإن غوغول، الذي كان أدباء روسيا الكبار في العصر الذهبي، الذي مثله القرن الـ 19، يقولون مع فيودور دوستويفسكي إنهم وأدبهم جميعاً إنما خرجوا من معطفه، في إشارة منهم بالطبع إلى قصته الطويلة "المعطف"، غوغول هذا فتح الأبواب مشرعة أمام حداثة روائية بل حتى مسرحية، إن أخذنا في الاعتبار مسرحيته "المفتش العام" التي لا يتعب المؤرخون من التأكيد على أن حضور القيصر نيقولاي الأول عرضها الافتتاحي، في ربيع عام 1836 في سانت بطرسبرغ، كان هو ما نجاها من براثن الرقابة، ولعل من أولى الملاحظات على أدب غوغول ولغته وأسلوبه تلك التي تتعلق بغرابته وطرافته ووصوله إلى الحدود القصوى في كل ما عبر عنه.
أية طرافة؟
غرابة؟ بالتأكيد، ولكن ماذا عن الطرافة ومن أين تأتي وغوغول عاش حياته القصيرة كلها مناكداً العيش ضجراً من أوضاعه، برماً بكل ما يحدث له؟ الواقع أن كل تلك الأوضاع كانت هي ما خلق لدى ذلك الكاتب حسّ السخرية من ذاته قبل سخريته من الآخرين، والرغبة الدفينة في التدمير الذاتي كما في تدمير الآخرين، ومن هنا، لن يعود غريباً أن نذكر هنا كيف أن حياة غوغول الأدبية قد بدأت بحريق لتنتهي بحريق آخر، ولكن حتى وإن كان الحريقان من فعل الكاتب نفسه وقد تعمد اللجوء إليهما بحثاً عن خلاص ما سنفسره بعد سطور، فإن الفارق بين الحريق الأول والحريق الثاني كان كبيراً، بل إن المسافة الزمنية التي تفصل بينهما كانت طويلة جداً، بل يمكننا القول إنها امتدت من بدايات الكاتب الأدبية إلى نهايته طوال فترة لم تقل عن ربع قرن من الزمن، ربع قرن نشط خلاله إبداع الكاتب بين عام 1827 حين شرع يكتب روايته الأولى "هانز كوخيلغارتن" التي لن ترى النور أبداً بعد أن أصدرها الكاتب في طبعة أولى، ثم ذهل أمام الفشل الذي كان من نصيبها لدى قلة من قراء "غامروا" بشرائها، كما لدى ناقدين فقط كتبا عنها ما يفيد بأنها لا ضرورة لها ويمكن تفادي قراءتها، وعام 1852 الذي أحرق فيه الجزء الثاني من "الأرواح الميتة".
أولاً حريق الأمل
والحقيقة أننا إذ نؤكد هنا أن الفارق كبير بين الحريقين، فإننا نشير إلى ضخامته على المستويات كافة، وفي مقدّم تلك المستويات كون الحريق الأول كان حريق مبدع أدرك أن عليه أن يتخلص من عمل أول له لا يعد بانطلاقة مأمولة، فطموحه كان أكبر كثيراً من ذلك العمل، ومن هنا أحرق مخطوطه رامياً إياه بكل رضى في وهدة النسيان، أما الحريق الثاني فكان كما نعرف، حريق يأس و"توبة" ورغبة في التخلص من ذلك الإثم الذي كان رجل الدين قد أقنعه بأن الأوان قد حان لوقفه وقتل الشيطان الذي كان يوحي به، ولا شك أن القارئ قد أدرك أن الحريق الأول إنما طاول رواية "هانز كوخيلغارتن" التي كانت أول تجربة لغوغول في كتابة الرواية إذ شرع يدبجها كما أشرنا عام 1827 وكان بعد في الـ 18 من عمره هو المولود في أوكرانيا غير بعيد من كييف، عام 1809، والذي مات أبوه، تاركاً إياه مسؤولاً عمن تبقى من عائلة بائسة، محاولاً أن يشق طريقه في الحياة وفي الكتابة في وقت واحد، وهكذا في وقت كان يتوخى فيه كتابة قصص وروايات تنهل من الحكايات الشعبية الأوكرانية حتى وهو في سانت بطرسبرغ، وجد نفسه ينصرف في محاولته الأولى إلى كتابة تلك الرواية على النمط الألماني الرائج حينها، وبالفعل أنجز غوغول كتابة الرواية ولم يجد صعوبة في الحصول على إذن الرقيب بنشرها لكنه آثر أن يوقعها باسم مستعار هو ف. آلوف، وصدرت الرواية بالفعل وراح صاحبنا الشاب ينتظر القراء والنقاد غير أن لا هؤلاء ولا أولئك كانوا على الموعد المرجو، بل إن الكاتب نفسه ما إن قرأ المقالين "النقديين" المنشورين حتى عاد لقراءة روايته من جديد ليجد نفسه من رأي الناقدين، فهرع إلى المكتبات يشتري ما لديها من نسخ انتهى به الأمر إلى إحراقها غير آسف إلا على ما انفق من مال وما أضاع من وقت.
"المرأة" تنجب كاتباً
لكنه في الحقيقة لم يكن حزيناً ولا يائساً، بل قرر أن يقبل بأي منصب حكومي يتمكن من الحصول عليه وأن يستعيد الكتابة من جديد وقد اختار هذه المرة أن يطور نصاً بعنوان "المرأة" كان قد كتبه وهو في الجامعة انطلاقاً مما كان قد جمع من حكايات تتعلق بالحياة الشعبية الأوكرانية، وهذه المرة إذ بدا مقتنعاً تماماً بما كتب، لم يتردد في توقيع النص باسمه الصريح للمرة الأولى، ولن يندم على ذلك أبداً، فهو إذ نشر النص في المجلة الأدبية المعروفة "لا غازيتا ليترتاريا"، قرئ النص على نطاق واسع وأولاً من قبل رئيس تحرير المجلة الذي قدر مواهبه وقدمه إلى اثنين من كبار شعراء المرحلة أحدهما هو فاسيلي جوكوفسكي الذي كان مؤدباً لولي العهد، وهكذا انطلق غوغول بسرعة مدوية وقد حصل في الوقت نفسه على وظيفة أستاذ لمادة التاريخ، وكان ذلك عام 1831 حيث بدأت تلك الانطلاقة الحقيقية التي عمدتها صداقة غوغول مع بوشكين الذي راح يتبادل معه الأفكار بل يقترح كل منهما مواضيع للكتابة على الآخر.
ومن المعروف أن غوغول لن يكتب مثلاً "الأرواح الميتة" بعد ذلك بعشرة أعوام إلا انطلاقاً من فكرة لألكسندر بوشكين، غير أن ما صدر من هذه الرواية، عام 1842، لم يكن سوى جزئها الأول الذي كتبه غوغول بعد رحلة قام بها إلى إيطاليا، هو الذي راح يسافر كثيراً في تلك السنوات وينشر كثيراً ويجدد بأكثر مما يمكن للعقل أن يتخيل، لقد بات يعتبر وريثاً شرعياً لبوشكين بوصفه أكبر الكبار بين الأدباء الروس وحتى باعتراف إيفان تورغينيف نفسه.
وهكذا انطلق غوغول بسرعة مدوية وقد حصل في الوقت نفسه على وظيفة أستاذ لمادة التاريخ، وكان ذلك عام 1831 حيث بدأت تلك الانطلاقة الحقيقية التي عمدتها صداقة غوغول مع بوشكين الذي راح يتبادل معه الأفكار بل يقترح كل منهما مواضيع للكتابة على الآخر.
ومن المعروف أن غوغول لن يكتب مثلاً "الأرواح الميتة" بعد ذلك بعشرة أعوام إلا انطلاقاً من فكرة لألكسندر بوشكين، غير أن ما صدر من هذه الرواية، عام 1842، لم يكن سوى جزئها الأول الذي كتبه غوغول بعد رحلة قام بها إلى إيطاليا، هو الذي راح يسافر كثيراً في تلك السنوات وينشر كثيراً ويجدد بأكثر مما يمكن للعقل أن يتخيل، لقد بات يعتبر وريثاً شرعياً لبوشكين بوصفه أكبر الكبار بين الأدباء الروس وحتى باعتراف إيفان تورغينيف نفسه.
قلق تورغينيف
غير أن تورغينيف الذي زاره، عام 1851، بعد سنوات قليلة من رحلة قام بها غوغول إلى القدس كانت رحلة حج دينية حقيقية، صارح خلانه بأنه ليس مرتاحاً لتغيرات طرأت على الكاتب الكبير، فالحال أن غوغول كان قد تعرف أثناء ذلك إلى رجل الدين المتشدد الذي يكره الإبداع ويعتبره كفراً، وكان يكره بشكل خاص الجزء الأول من "الأرواح الميتة"، في وقت كان غوغول منكباً على إنجاز الجزء الثاني بكل جوارحه، ومن هنا كان ما لاحظه تورغينيف نوعاً من صراع داخلي يعيشه غوغول بين رغبته في إنجاز ذلك الجزء وضغوط الراهب المتشدد عليه، والراهب المعني هنا يدعى الأب ماثيوس الذي كان لا ينفك يصرخ في وجه مريده ولا سيما بعد عودة الكاتب من زيارته إلى القدس، أن عليه الآن أن يتوقف عما يفعل محدداً: "أخرج الكتابة من حياتك! أخرج الشيطان من داخلك! ودع عنك بوشكين هذا الفاسد الكافر"، ولئن كان غوغول قد قاوم ماثيوس في البداية بل التجأ هرباً منه إلى دارة الكونت تولستوي محتمياً به، فإن الراهب لم يتركه بل راح يطارده ساخطاً لاعناً حتى انتهى الأمر باستسلام غوغول في النهاية، وهو هنا، أي في الأيام الأخيرة من حياته لم يكتف بالتخلي عن بوشكين وعن الكتابة، بل طلب إحراق كل ما كتب وبخاصة الجزء الثاني من "الأرواح الميتة" الذي ضاع بذلك إلى الأبد قبل أيام من تسليم غوغول الروح، في 20 فبراير (شباط) 1952، وهو يصرخ بجنون "السلّم! إليّ بالسلّم بسرعة!"، متحدثاً عن ذلك السلّم الذي كان في شبابه يقول مازحاً إنه في لحظة الموت سيُرمى لنا من أعلى لكي نرتقي عبره الدرب إلى الآخرة!!!