عامر بدر حسون
في مثل هذه الايام من العام 2015 توفي الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في فرنسا.
ووقتها اختلفت الاراء فيه تبعا لاختلافهم في النظام الذي خدمه بشعره ومواقفه.
وكنت نشرت يومها المقال التالي، الذي ذكرني به الفيسبوك، وناله من التشنج في ردود الافعال ما ناله يومها.
فهل بقي عبد الواحد "شاعرا مهما" كما عند وفاته، وهل بقيت النظرة له ولما كان يمثله في خارطة انتماءات العراقيين كما هي؟
ام ان الزمن غربل المشاعر ووضع الاشياء في مكانها؟
لنقرأ ونرى. قال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في مقابلة مع التلفزيون السوري، إن أول قصيدة كتبها في حياته كانت قصيدة مديح لمراقب الصف، كي لا يسجل اسمه ضمن المتأخرين عن الدوام.
ويمكن القول ان أول فائدة اكتشفها الشاعر (وعبد الرزاق عبد الواحد ايضا) للقصيدة هي كتابة المديح بها للمراقب كي ينجو من العقاب أولا..
وسيكتشف على مدى سنوات عمره، ان القصيدة تكتب هربا من عقاب أو بحثا عن مغنم، ويعرف محبو الشاعر ومن هم ضده، انه انشغل فيما بعد بمدح مراقبين اكبر وبمستويات أعلى .. حتى وصل لصدام حسين!
وبودي ان لا ألوم الشاعر على مسيرة قصيدته، فالقصيدة العربية ولدت في باب الخيمة وأزدهرت على باب السلطان، وهي ايضا ماتت هناك!
ومثل القصيدة عاشت الكتابة العربية مئات السنين في دواوين السلطان، وما نراه اليوم من كتب مرصوفة باعتزاز هي، في الأعم الأغلب، من هذا النوع شعرا ونثرا وفقها! وهذا يوضح مشكلتنا: الفكر العربي السائد في حياتنا لا يمكن ان ينجب الا هذا المستوى من الحياة والافكار! عبد الرزاق عبد الواحد مات مع سقوط صدام حسين بالضبط! كان منفى الشاعر اختياريا، وقد امعن المنفى في اذيته.. واستقبله بصفته "شاعر صدام" وتم تداوله على هذا الاساس في البلدان التي تنقل فيها: ففي سورية كانت بضاعته شتيمة الامريكان وتمجيد "المقاومة". وفي عمان كانت بضاعته تمجيد صدام حسين، وفي بعض المناسبات كان يذكّر بقصيدته عن الامام الحسين. ويمكن القول ان الشاعر الراحل لم يجد الوقت لينظر في المرآة كي يعرف اي نوع من المخلوقات الشعرية هو؟! لذلك بقي يتنقل من محفل الى اخر، وكان مثل طفل دُرّب على الالقاء امام الضيوف ويجد دائما من يقول له: "سَمّعْ" عمو قصيدتك عن بغداد!
أو كدُمية دوارة بمحرك تقرأ الشعر وهي تلف وتدور!
لم يكن ثمة تجربة او خبرة يمكن ان يقدمها لأحد بكل اسف، رغم عمره المديد ومعاصرته لأكثر التحولات دراماتيكية في العراق.
وكانت اكثر كتابته النثرية طرائف و"وشايات" عن شخصيات يتبادل معها الغيرة والتنافس. لي رأي خاص في قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد، وهي انها تغلب عليها الصنعة لا الإبداع، يعني هو "ناظم" اكثر مما هو مبدع!
قلت هو "رأي خاص".. لكن هذا الرأي يصطدم بما هو سائد عندنا من انه شاعر عظيم او كبير، ولطالما تخيلته وهو يضع مفرداته الرنانة والموحية سلفا امامه.. ثم يوزعها او يرشها على القصيدة الجديدة. ومادام الاصرار على انه كبير فلنقل بإنصاف انه ناظم شعر كبير، او هذا ما انتهى اليه منذ زمن طويل.
وحقيقة الامر انه كان يكتب الشعر لمنافسة الشعراء الشعبيين ايام صدام، وليس منافسة الجواهري (الذي كان يكتب وعينه على المتنبي) فكانت قصائده تملك جوا مشحونا بالعاطفة التي تثيرها الهوسات والقصائد الشعبية وكأنها واحدة من تلك القصائد. رغم ذلك اريد ان اعطي الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد العذر (والكثير من العذر في الواقع) فيما فعله ونظمه لسبب جوهري، هو انه ابن اقلية دينية، وابناء الاقليات في العراق يعيشون خوفا مزدوجا:
من الاكثرية ومن الحكومة! ولعل قسوة الاكثرية عليهم اشد من قسوة الحكومة، لذلك يلجا الواحد منهم، ان اراد ان يشتهر ويتميز ويشعر بالحماية، الى التعلق بأذيال الحكومة مهما فعلت! لا ابرر له او لغيره من ابناء الاقليات ما فعلوه ويفعلوه اليوم، وانما احاول ان اتفهم اسبابهم ودوافعهم.. فالقسوة الاجتماعية عليهم سائدة كعقيدة بكل حزن واسف. وعدا هذا.. ما هو شغل الشاعر، اصلا، في مجتمعنا؟ اذكر ان الجواهري سئل عن القصائد التي نظمها لملوك ورؤساء، فقال: - "انهم يحتفون بي، فبماذا ارد عليهم"؟!
هذه هي مدرسة الشعر العربي التي لا ترى في التكسب بالشعر عيبا او مثلبة.. بل ان شعر التكسب ما زال يدرس عندنا في المدارس بكل اعتزاز.