حقيقة الدولة العميقة في العراق
12-تشرين الثاني-2022
جميل عودة إبراهيم
يتردد مصطلح (الدولة العميقة) في العراق بين الأوساط السياسية والشعبية، وامتد تدريجيا إلى طاولة الأوساط الأكاديمية التي تعقد بين الحين والحين ندوات فكرية للبحث عن مفهوم (الدولة العميقة) وتتلمس آثاره السلبية على سياسة البلاد واقتصادها...
مصطلح (الدولة العميقة) أو (دولة بداخل دولة) من المصطلحات التي تُستخدم لوصف أجهزة حكم غير منتخبة، تتحكم بمصير الدولة، مثل الجيش، أو الأحزاب، أو الشركات ورجال الأعمال، ووسائل الإعلام، وذلك من خلال عناصر مؤثرة تتواجد في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية. الأمر الذي يوفر لتلك الأجهزة غير رسمية فرصة لتوجيه أنشطة مؤسسات الدولة الرسمية، والتأثير في قرارها السياسي والاقتصادي والأمني.
ويُقال إن للدولة العميقة وجهان: وجه رسمي، وهي الشخصيات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تتبوأ المناصب القيادية في الدولة، وتُدير الدولة رسميا سواء بالانتخاب أو التعيين. ووجه غير رسمي، وهي الشخصيات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تُدير الدولة ومؤسساتها بشكل غير رسمي، وذلك من خلال تأثيرها على الموظفين والمسؤولين الرسمين.
والوجه غير الرسمي (الشخصيات غير الرسمية) هي التي تُعرف باسم (الدولة العميقة) كونها لا تتبوأ أي منصب رسمي، ولا تظهر في الواجهة، ولا تتحمل المسؤولية المباشرة عن أي قرار إداري أو سياسي أو اقتصادي، ولكنها في الحقيقة هي التي تصنع القرار (تعده) وتعبره إلى الشخصيات الرسمية لتضيف له صفة الرسمية والمشروعية، بالإضافة إلى تأثيرها الفعال في وسائل الإعلام، ومؤسسات المجتمع مثل النقابات والاتحادات والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الدينية، وحضورها العشائري والوجهائي.
هناك رأي يرى بأن الدولة العميقة ما هي إلا "دولة داخل دولة"، وهي عبارة عن شبكة من أصحاب المصالح والمتنفذين، من المسؤولين السابقين، وأصحاب رؤوس الأموال، والمؤسسات الأمنية والعشائر (في دول العالم الثالث)، وتربطهم علاقات وثيقة بصناع القرار الموجودين على رأس المؤسسات الرسمية، بحيث يتفاعل هؤلاء بتناغم لتحقيق مصالحهم، ولا تشترط المعرفة بين أعضاء تلك الشبكة، وإنما توحدهم (المصلحة المشتركة)، وبعضهم يعرف الدولة العميقة بأنها: (دولة غير مرئية، وسرية، وتوازي الحكومة الشرعية في أعمالها وتتصف هذه الأعمال بغير القانونية).
منذ منتصف مايو/ أيار 2018، عقب إجراء الانتخابات البرلمانية في العراق، واندلاع الأزمة السياسية الأصعب منذ الاحتلال الأميركي عام 2003، يتكرر الحديث عن (الدولة العميقة) على لسان زعامات سياسية، وأعضاء في البرلمان، ومسؤولين ومراقبين للوضع السياسي في العراق، بوصفها المسؤولة عن الأزمات. وهذه ليست المرة الأولى، إذ إنه بعد كل مشكلة سياسية تعصف بالعراق، أو خلل يصيب توازن مصالح الأحزاب فيما بينها، يظهر مصطلح (الدولة العميقة) ويتحول إلى (تهمة) تتراشق بها القوى السياسية. ويثير هذا الأمر تساؤلات حول حقيقة وجود دولة عميقة في العراق، وكيفية عملها.
في الغالب، تجري الإشارة إلى السيد (نوري المالكي) رئيس الوزراء الأسبق لدورتين متتاليتين، بوصفه المؤسس الأول للدولة العميقة، بعد 2003، وهو أول من عمد إلى توزيع أعضاء حزب الدعوة ومناصريه في وزارات الدولة، لتسهيل أمور أعضاء حزبه وتكتله الانتخابي في حال احتياجهم إلى أمر ما. كما تجري الإشارة إلى السيد (هادي العامري) زعيم منظمة بدر التي استولت على عدد من الوزارات مثل وزارتي النقل والداخلية، وفي الوقت الحاضر تجري الإشارة إلى (الحشد الشعبي) لاسيما الفصائل التي دخلت في العملية السياسية، وصار لها ممثلون في البرلمان، ووزراء يتحكمون ببعض الوزارات والمؤسسات الأمنية. وما رافق ذلك من تحول الموظفين الحزبين إلى أصحاب أموال طائلة من جراء المساومات التي يفرضونها على المواطنين، فضلاً عن بيع وشراء التعيينات في أكثرية مؤسسات الدولة.
فهل بالفعل توجد في العراق دولة عميقة في مقابل دولة ظاهرة؟ أم أن هذا المصطلح يتكرر في الأزمات السياسية، يطرحه الخصم بقصد الحد من تغول بعض الأحزاب والشخصيات السياسية التي صار لها قول وأثر في العملية السياسية، أو بهدف الحصول على بعض المكاسب السياسية؟
لا يمكن الجزم بوجود (دولة عميقة) تتحكم بالقرار الأمني والسياسي في العراق، لا لشخص، ولا لحزب، ولا لمجموعة دينية أو مذهبية أو عرقية. ولا يمكن نفي تأثير هذه المسميات على القرار السياسي والأمني والاقتصادي، ولكن ذلك التأثير لا يحدث في إطار (الدولة العميقة) بل يحدث في إطار (حكومة الأحزاب) القائمة على توافقات سياسية تحظى بتأييد داخلي وخارجي على الأقل في مراحل تكونها الأولى وما بعدها.
هذه التوافقات السياسية في حكومة الأحزاب تتيح لكل حزب فرض إرادته في المساحات الاجتماعية التي ينتمي إليها، على أساس مذهبي أو عرقي أو حزبي. فهناك مساحة كبيرة للأحزاب الكردية لفرض إدارتها بشكل رسمي وغير رسمي على مسمى (إقليم كوردستان) وفي داخل إقليم كوردستان توزع جغرافية المحافظات بين الحزبين مع هامش قليل لبقية الأحزاب الكردية الأخرى التي لا يسمح لها بالعمل السياسي إلا من خلال التحالف مع الحزبيين الرئيسين أو من خلال عدم معارضتهما.
وهناك مساحة كبيرة للأحزاب الشيعية لفرض إدارتها بشكل رسمي وغير رسمي على مسمى (المحافظات الشيعية) الوسطى والجنوبية. حيث تتنافس الأحزاب الشيعية الأساسية التي لا تتعدى (4-6) أحزاب، تحت مسميات مختلفة، تعمل متحالفة تارة، ومتفرقة تارة أخرى على السيطرة على المساحات الشيعية، دون أن تسمح بظهور حزب جديد، بل هي تتشكل سنويا أو كل أربع سنوات بأسماء وعناوين متجددة، بهدف البقاء والاستحواذ على المساحة المحددة لها، كونها تمثل المكون الاجتماعي الأكبر في العراق، وهم الشيعة.
كما أن هناك مساحة للأحزاب السنية لفرض إدارتها بشكل رسمي وغير رسمي على مسمى (المحافظات السنية) بنفس الطريقة التي يعمل بها الأحزاب الكردية والشيعية، وينسحب الأمر على المكونات الاجتماعية والدينية الممثلة للمكونات الاجتماعية الأخرى مثل التركمان والمسيحية واليزيدية والصابئة والشبكية وغيرها.
فإذا ما تحدثنا عمن يسيطر على قرار الحكومة الاتحادية، بشكل رسمي وغير رسمي، فان الجواب هو أن كل الأحزاب المشاركة في الحكومة الاتحادية هي التي تسيطر على القرار الحكومي الاتحادي، ولكن كل بحسب نسبته. فإذا كان الحزب الشيعي الفلاني يستحوذ على إمكانيات البلد المحددة ضمن صلاحيات رئاسة الوزراء فان الحزب الكردي الفلاني يستحوذ على إمكانيات البلد المحددة ضمن رئاسة الجمهورية، كما أن الحزب السني الفلاني يستحوذ على إمكانيات البلد المحددة ضمن صلاحية رئيس مجلس النواب.
وتبدأ سيطرة الأحزاب تنسحب إلى الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة والمحافظات كل حزب يفرض إدارته على الوزارة أو الجهة أو المحافظة، فيديرها بشكل رسمي إذا كان في الحكم، وبشكل رسمي إذا كان خارج الحكم بالاعتماد على أعضاءه وأنصاره ممن جرى تعينيهم في مؤسسات الدولة، كونهم يمثلون أو يتعاطفون مع أفكار الحزب وقادته. وهكذا فان الكل موجودون في الحكم، والكل يؤثرون على القرار السياسي والاقتصادي والأمني، ولكن كل بحسب مساحته.
وبالطبع، فان هذا لا يعني وجود دولة عميقة تُدير البلاد من الخفاء أو من وراء حجاب، بل أن هشاشة النظام السياسي والإداري في العراق (أولا) ودخول أعضاء الأحزاب وأنصارهم كإداريين مؤثرين على القرار الإداري والمالي في المؤسسات الحكومية (ثانيا) جعل القرار الإداري والسياسي كأنه يؤخذ من خارج المؤسسة الحكومية، سواء بشكل مباشر أو من خلال التأثيرات التي تتركها تلك الأحزاب والشخصيات على المؤسسة الحكومية.
كما أن هذا التأثير لا يستمر طويلا في العادة، فمع استبدال الوزير، ومجيء وزير آخر من حزب ثاني يفقد الحزب الأول سيطرته تدريجيا على الوزارة، وينقل ويعزل أنصاره عن مناصبهم بأيام معدودة، فلا يكون لهم دور، ولا رسم، ولا أثر، بل يتحولون إلى موظفين هامشين لا حول لهم ولا قوة. وهذا يدل قطعا على عدم وجود (دولة عميقة)
نعم يمكن القول إن الفوضى والفساد الإداري والمالي هي المسيطر على المؤسسات الحكومية سواء كان هذا الحزب أو ذلك الحزـب، وسواء كان هذا الإداري أو ذلك الإداري، لأن منظومة المحاسبة تكاد أن تكون معدومة تماما في المؤسسات الحكومية.
نخلص مما تقدم إلى الآتي:
1. ليس في العراق دولة عميقة ودولة غير عميقة، بل في العراق أحزاب طائفية وعرقية، تفرض وجودها وسياساتها على كل ما تصل إليه يدها. ولكنها سرعان ما تفقد سيطرتها بدخول حزب قوي آخر.
2. يمكن أن يطبخ القرار السياسي والمالي في خارج المؤسسة الحكومية، وينقل إلى المؤسسة الحكومية لتتبناها رسميا، ولكن ذلك لا يحث إلا بموافقة الراعي الرسمي للمؤسسة الحكومية، ورضاه عن ذلك القرار.
3. إن للدولة العميقة بالإضافة إلى المصالح المشتركة مبادئ وقيم تؤمن بضرورة بقاءها في المؤسسة الحكومية وتناضل من أجل تأصيلها حتى لو اضطرها إلى اللجوء إلى الوسائل غير القانونية إلا أن الوضع في العراق لا ينبأ بمثل هذه ابدا، فلا توجد مبادئ سياسية أو إدارية تناضل من أجلها تلك الأحزاب ومن يناصرها ولا حتى مصالح مشتركة مشروعة بل هي عمليات نهب وسلب وتفريغ المؤسسة الحكومية من قيمها ومحتواها.
4. إن الدولة العميقة في العادة تسعى للحفاظ على تثبيت المؤسسة الحكومية التي تضمن لها تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة. بينما تعمل الأحزاب السياسي في العراق على القضاء على المؤسسة الحكومية واستنزافها بما لا يجعلها تصلح للخدمة العمومية.
5. إن من يتحكم في المؤسسة الحكومة ليس ما يٌعرف بالدولة العميقة بل هي مافيات سوء إدارة وفساد مالي، بين فاسدين من داخل المؤسسة وفاسدين من خارجها، ويمكن أن يكون من يؤثر على القرار فيها شخص غير مهم، ويمكن أن يكون شخص معروف وله قيمة اجتماعية وسياسية.