حين تنبه الفرنسيون إلى أن شكسبير استعار من فيلسوفهم مونتاني
12-أيلول-2023
إبراهيم العريس
منذ زمن طويل أحب الفرنسيون شكسبير كما لم يحبوا إنجليزياً قبله أو بعده. قلدوه ولعبوا مسرحياته وترجموه وكتبوا عنه. ومع ذلك كان عتبهم عليه كبيراً. لماذا تراه هو تجاهلهم دائماً؟ لماذا لم يدن من تاريخهم كما فعل من تاريخ اليونان والرومان وحتى من تاريخ جيرانهم الدنماركيين؟ لماذا أمعن في الاستعارة من ديكاميرون، من تيت ليف؟ من بلوتارخ؟ وحتى من "الشرقيين" وظل غير متنبه إليهم. والحال أنهم حين وصلوا إلى اليأس من القدرة على توضيح تلك المسألة، قادهم اليأس إلى التعميم. هكذا، على سبيل المثال، قالوا في القرن 19 إن ثمة كثيراً من التشابهات والتقاربات بين كيفية تفكير صاحب "هاملت" و"الملك لير" بل ثمة نوع من التطابق بين رؤية هاملت إلى العالم وهي "رؤية لا شك أنها تنطق باسم شكسبير نفسه" ورؤية الفيلسوف الفرنسي الأول ميشال دي مونتاني كما عبر عنها في بعض مقالات كتابه الأشهر، ولكن كيف وأين؟ ما من جواب فصيح هنا. وهكذا طويت تلك الصفحة، ولكن موقتاً فقط، وفي انتظار "ظروف أفضل" كما يقول التعبير الشعبي. والحقيقة أن تلك "الظروف الأفضل" تبدت ذات يوم، وكما لو بفعل الصدفة، ماثلة هناك أمامهم وتحديداً في مسرحية "العاصفة" التي كانت من آخر ما كتب شكسبير وإن شراكة مع جون فلتشر.
التنبه متأخراً خير من عدمه
ولكن، تساءل بعضهم، لماذا ترانا لم نتنبه للأمر من قبل؟ وجاء الجواب حاسماً: بكل بساطة لأن "العاصفة" التي قدمها شكسبير للمرة الأولى في عام 1611 لم تكن من مسرحيات الكاتب التي راقت للفرنسيين، وربما بسبب إيطاليتها الفاقعة. والفرنسيون لا يستسيغون جيرانهم الإيطاليين كثيراً، لكنهم حين اكتشفوا حقيقة هذا الأمر صرخوا فرحين كما فعل اليوناني أرخميدس ذات يوم: وجدناها! فما الذي وجدوه؟ بالطبع الدليل القاطع على استعارات شكسبيرية من فرنسا. وتحديداً من أول الفلاسفة الفرنسيين الذي كانت الصدفة قد جعلتهم يستبقون الأمور ليقاربوا كما نوهنا قبل سطور بينه وبين شكسبير في مجال رؤيتهما المشتركة إلى العالم، ولكن الآن لم يعودوا في حاجة إلى هذا التعميم. فالوقائع ملموسة ولا تقبل الشك. ولعل أهمها أن الترجمة الإنجليزية الأولى لـ"مقالات" مونتاني صدرت في لندن في عام 1603 ما يعني قطعاً أنه كان لدى شكسبير ما يكفي من الوقت لقراءتها والاستعارة منها. فما الذي استعاره، بالتالي ما حجم الدين الذي للثقافة الفرنسية في رقبة سيد الكتاب الإنجليز؟ كل الذهنية المهيمنة على "العاصفة" لا سيما حكايات يرويها مونتاني في "المقالات" مستخلصاً منها الدروس التي تعزز فكره العقلاني. بل أكثر من ذلك. فإذا كان شكسبير قد حرص على أن يبث في مسرحياته جميعاً فكرانيته التي تدعو قارئه، وبالأحرى متفرجه، إلى أن يحاول فهم نفسه قبل محاولته فهم أي شيء آخر في هذا الكون بالنظر إلى أن فهم الذات هو الخطوة الأولى الأساسية لذلك الفهم الأوسع. لا شك أن ذلك كان المبدأ الأول لدى مونتاني.
أمثولة واضحة
ويقيناً أن مونتاني لم يهتم بالحكاية الكامنة في خلفية "العاصفة" قبل أن يكتبها شكسبير إلا لأنها تعطي الأمثولة الأوضح على تلك الفكرانية وارتباطها بالإنسانية الحقيقية للإنسان. وربما يجدر بنا هنا، لفهم الأمر بصورة أفضل، أن نعود إلى المسرحية نفسها. فهي تتحدث كما نعرف عن برسبيرو، دوق ميلانو الذي إذ خلعه أخوه عن موقعه وجد نفسه منفياً إلى جزيرة خالية جرداء في العالم الجديد، ولكن لأنه ساحر قدير سرعان ما يتمكن من السيطرة على الكائنات الموجودة من حوله في الجزيرة كما على الأرواح المنتشرة فيها: من ناحية، آرييل، الروح الإيجابية في الحياة وسيد الهواء والريح، ومن ناحية ثانية كاليبان الروح السلبية في الأرض ورمز الموت. وتبدأ المسرحية على أي حال بتلك العاصفة التي يطلقها آرييل وتؤدي إلى غرق المركب الذي ينقل ملك نابولي هذه المرة يصحبه ابنه الأمير وخادمه غونزالو إضافة إلى الدوق شقيق بروسبيرو الذي لخسته المعهودة يعرض رفاقه في السفر إلى عدد من المحن التي، ولحسن الحظ وبسبب تدخل بروسبيرو، تنتهي على خير بحيث تختتم الأمور، ومن دون أن ندخل هنا في التفاصيل المعروفة، بتلك المصالحة بين الجميع. وبخاصة إذ يتمكن برسبيرو من استعادة دوقيته ويتمكن من تحرير آرييل وكاليبان من سجن منفاهما على الجزيرة الضارية.
تفسير عقلاني
في المسرحية كما في الحكاية الأصلية، ولكن أكثر وأهم من ذلك، في تفسير مونتاني العقلاني للحكاية، دائماً ما رمز آرييل وكاليبان إلى الشعوب المستعمرة كما إلى المستوطنين الأول في المناطق النائية المحتلة فوقعوا في "كماشة" بين القوى المتناحرة، التي تتنازع المناطق التي يقيمون فيها كما خيراتها إنما من دون أن يفهموا حقيقة ما يصيبهم من جراء ذلك. ولعل ما يجدر بنا ملاحظته في هذا الإطار بحسب المفسرين الفرنسيين للعلاقة عبر هذه المسرحية بين مونتاني وشكسبير، هو كيف أن هذا الأخير قد وضع الفكرة الأهم بين الأفكار العديدة التي تحفل بها "العاصفة" وهي كذلك تلك يعبر عنها مونتاني في مواقع عديدة من "المقالات"، على لسان الخادم غونزالو كالعادة حيث دائماً ما يكون البسطاء هم الناطقون بالحكمة. وغونزالو يعبر ذات لحظة عن كيف أنه يحلم بعالم جديد يكون هو فيه ملكاً "عند ذاك، سيبنى كل ما في هذا العالم من جديد وبعكس بنائه الحالي: ففيه لن أسمح بأي نوع من التجارة والتهريب، ولن يكون ثمة وجود لأي قاض لا حاجة إليه. ولن يملك أحد ثروة خاصة تكون حكراً عليه. ولن أسمح بأن يقدم أحد خدمة خاصة لأحد. طالما لن أسمح بأن يكون هناك فقراء وأغنياء، أقوياء وضعفاء". ترى أفلا يتحدث مونتاني في مقالته المعنونة "عن آكلي لحوم البشر" عن عالم جديد في نص يعتبر عادة الأساس الذي بنيت عليه أسطورة "البدائي الصالح"؟ ولكن هل ترى النص يتحدث عن ذلك البدائي حقاً؟ أبداً إن ما يتحدث عنه إنما هو تلك الإثرة التي يستخدمها الفيلسوف الفرنسي للكناية عن فكرته الأساسية التي تدفعنا نحن معشر البشر إلى فهم أنفسنا بأنفسنا. وذلكم بالتحديد مغزى هذا النص الذي ليس سوى محاولة منه للرد على "جمهورية أفلاطون" مؤكداً في رده أن ما هو مطلوب هو "أمة لن يكون فيها أي نوع من التجارة والتهريب ولا معرفة بالآداب التي لن تكون ثمة حاجة إليها. ولن تكون ثمة فيها حاجة إلى علم الأرقام ولا إلى القضاة ولا وجود فيها لأغنياء أو فقراء، ولا لمن يستخدم خدمات يقدمها له غيره"!
كبرياء مستعادة
ترى هل يذكرنا نص مونتاني هذا بشيء؟ بالتأكيد، بنص "العاصفة" الذي ذكرناه بحذافيره قبل سطور. فالنصان يتشابهان بل يتطابقان. ومن حق الباحث الفرنسي إيف سان جيور الذي انكب طويلاً على دراسة النصين معاً أن يستخلص في هذا السياق أن مونتاني السابق في الإشارة إلى الموضوع، يبدو "على أي حال أكثر إيجابية من شكسبير بكثير. فكاليبان لديه يبرهن على أن حلم العصر الذهبي الذي يعبر عنه غونزالو ليس سوى وهم". أما مونتاني، فإنه يضفي على "أكلة لحوم البشر" الذين يخصهم بواحدة من مقالاته الأكثر لفتاً للنظر، "يضفي عليهم وعياً يمكنه من أن يشرح لنا الطابع النسبي لعاداتنا"... ولعل المهم في ذلك كله أن الفكر الفرنسي قد وجد الراحة، أخيراً، إذ بات متأكداً من أن شكسبير لم يهمل الفكر الفرنسي بل استعار من كبير من كبار هذا الفكر: مونتاني. وهذا في حد ذاته يكفي لاستعادة الكبرياء الفرنسية كرامتها بالتأكيد.