خالد المعالي شاعر يتماهى بجلجامش وأورفيوس المغني
29-أيار-2023
أنطوان أبو زيد
في مجموعته الشعرية الجديدة بعنوان "رعويات صنين وقصائد أخرى" يطلق الشاعر العراقي خالد المعالي صيحاته الشعرية الغنائية عن العمر الهارب، ومواجع مستعادة، ومحطات من حياته المنصرمة، وأهم ما فيها وقفاته في جبل صنين، لسبع سنوات خلت، سماها "رعويات" وهي وقفات تأملية في النفس وفي مساربها ودواخلها التي تستثيرها الطبيعة الريفية الجرداء، في صنين.
إذا، تتشكل المجموعة الصادرة حديثاً عن منشورات الجمل، من أربعة أجزاء، أو حزَم من قصائد غير مبينة مطبعياً، على أنها تُنمى جميعها إلى أجواء شعرية تكاد تكون متناسقة، على ما يتبين للقارئ لاحقاً. ولكن أول ما يتضح من القصائد أنها كُتبت ما بين 2014 و2016، وأن الشاعر ربما قصد إلى ترك مسافة زمنية كافية بين لحظة الكتابة والنشر، حوالى سبع سنوات (2022) يتثبت في خلالها من رؤيته الأصيلة ومن رجاحة الجديد فيها، صوراً ومعاني، وبنىً شعرية.

الذات وذكرياتها موضوعاً
الحزمة الأولى (ص:5-43) وفيها تسعٌ وعشرون قصيدة، كتبها الشاعر خالد المعالي في بيروت، وفيها يعد ذاته الشاعرة والواعية لأن تباشر الحكي عن نفسها، وعن تموضعها في العالم، وصورتها في الزمن، وأحلامها التي "تُركت لتُنسى" (ص:8). والغالب فيها أن الشاعر، إذ يجعل ذاته موضوعاً أحياناً، يعود إلى صوغ عالمه الذي يوشك على الإفلات من يديه، ومن وعيه، ويكاد يضمحل في غربة الأمكنة، وتزاحم الذكريات التي تعود به إلى أرض الوطن (العراق)، وهو نازلٌ في مدينة بيروت، على هيئة درويش صوفي، باحثاً في الطريق عن أثر أو ضوء: "ثم عدت لنفسي، أشاورها/ متى كان هذا؟ متى حل البؤسُ/ ثم سارَ يرينا الحياةَ، أطرافها/ عدةَ اللهاث، نرى خيامَ الهجيرةِ/ تتبعنا من هناك، نرى الهناكَ،/ اللقى مطروحةً وسطَ المدينة" (ص:18).
هل يمكن القول إن في هذه الحزمة من القصائد أيضاً رثاءً للنفس، وصياحاً مريراً أن الدرويش الذي تلبسه الكائن-الشاعر صار أقرب إلى التائه والشريد في أرض باتت غريبة له، وأن الماضي المثقل بالذكريات صار عديم الأمل. يقول: "لم يعد يدري، شارداً، في ثوبهِ/ الرث، وقد حالَ لونهُ، فيما أقدامهُ/ كلها جراحٌ، تخطو في الحقل الواسع/ متى كانَ هذا؟ أينَ؟ بيضة القطا/ تلوحُ، نمشُها يُظهر ويُخفي، وخياله / تاهَ، لا مياه، بل سرابٌ يبدو من بعيد" (ص:20-21).
هوية اللغة الشعرية
لا تخفى هوية اللغة الشعرية عند الشاعر خالد المعالي، بل تراه شديد الحرص على تبيينها كلما سنحت له الفرصة، ولكن من دون أن يثقل لغته بالمراجع أو الأسماء العلَم الدالة على توجهه أو أسلوبه أو المدرسة الشعرية التي يؤثر الانضواء فيها؛ إنها المدرسة الأورفية، الغنائية ذات الامتدادات الرومنطيقية نظير ما لدى هولدرلن، وريلكه، وجورج تراكل، وغيرهم من الشعراء الألمان الذين ترجم لهم الشاعر المعالي إلى العربية، وتأثر بمنهج العزلة (الاختيارية) لديهم بغية التأمل في النفس والعالم، عبر ما توفره مشاهد الطبيعة الخارجية، وما تمنحه لحظات السكون من طاقة على النفاذ إلى الأعماق، وتدوينها بلغة يرينُ عليها ثقلُ الفراغ الذي يستشعره الكائن في حياته، ويضاعفه شعور بالسراب من تلاحق الخيبات وتوالي انهيار المثُل أمام ناظريه.
أما المنهج الصوفي الذي تخلل لغة الشاعر والذي تُلمح نثرات متفرقة، على هيئة معجم منتقى مثل: الطريق، والنداء، والرؤى، والقيامة، والألم، والملاك، والعيد، والصمت، والروح، وغيرها، فهو وإن يكن رديفاً في لغة الشاعر، فإنه لا يني يتساوق في رؤيته العبثية والجنائزية، حيث تتلاشى الأبعاد والأزمنة، وتنتهي الطرق إلى متاهة لا عودة منها. إنها الاعترافات الثلاثة والعشرون (ص:44-78) يرسم فيها الشاعر سبيلاً غائراً إلى نفسه، حيث لا مكان، إلا ما كانَ رمزياً، ولا أشياء، ولا معالم ولا أحداث، إنما نفاذٌ إلى قرارة الكائن، واستبطانٌ لحاله، واكتشافٌ لرؤيته، وصولاً إلى استخلاص تصور عام لأحوال ذاتٍ مأزومة وسادرة في العبث والسراب واليباس: "ومن هنا نبعتْ رؤاهُ، فقطع الخيط/ الذي كانَ لديه، ورمى بعكازه إلى الوادي/ أيامه لم تعدْ تجيءُ، وليلهُ آفلٌ تماماً/ كانَ يداري روحَهُ بميتِ الكلماتِ، يصفرُ/ لحنها مثلما كانَ يفعلُ دائماً، فيما يمد/ راحَهُ عالياً، يشكو بصمتٍ يباسَ الطبيعة..." (ص:44).
ومن الاعترافات هذه، وقفة يدرك فيها الكائن مآل حياته المأساوي، إذ يصيبه العجز، وتذبل حواسه، وتتهالك قدراته، فيمضي إلى القبر وحده: "حياتهُ التي كانت حُطاماً، شالها اليومَ بكيسٍ/ وسار في جنازةِ نفسه، مَن لهُ حقاً/ ومنْ كانَ بانتظاره؟ شاردَ الذهن، يراقبُ.../ شعره الذي يقصه بيديه/ وقد ابيض، أسنانهُ وقد لاحها الهرَمُ،/ بصرُه وقد كل/ وأفلسَ في كل شيء.../ فاستراحَ في قبرهِ، ونسيَ الحياةَ التي كانت له". (ص:45).

الشعر الرعوي

في الحزمة الثالثة من قصائد المجموعة الشعرية، وهي عقدتها، والمسماة باسم المجموعة كلها، عودٌ إلى نوع شعري قديم قدمَ الحضارات النامية من عهدها الزراعي إلى عصورها المدنية، مثيل ما وجدناه لدى تيوقريطس، في الأدب اليوناني القديم، وما وصل إلينا من التراث الشعري الرعوي في التوراة عبر سفر "نشيد الأناشيد". وما لم يُرد الشاعر المعالي الاعتبار به – وقد سبق أن أدركه طبعاً- هو أن للشعر الرعوي أصلاً عربياً ماثلاً في تراث الشعر العذري والجاهلي على السواء، ولا بأس أن يمتد طيفه ليظلل رعويات الشاعر في صنين.

أياً يكن الأمر، فإن الشاعر إذ يفرد للقصائد الأربع (4) التي نظمها في حضرة صنين (أحد جبال لبنان العالية) مكانة أولى بين سائر القصائد البالغة 103 قصائد، ربما لأنها صيغت في مكان مثالي، ذي صبغة قدسية وأسطورية، على ما تشهد له ملحمة جلجامش، القاصد جبال لبنان بحثاً عن نبتة الخلود. في القصيدة الأولى يذكر الشاعر أنه لما "كان يكتب رسائل إلى نفسه التي لم/ يعدْ يراها إلا لماماً" (ص:80)، أتاح له العلو ("هناكَ في الأعالي") إدراك أن الكائنات والأحجار، باعتبارها أشخاصاً، يجمدون "في المكان"، وأنهم يكفون "عن الصيرورة ويرتاحوا". ولدى التثبت من الطابع الرعوي لهذه القصيدة، لا يجد القارئ سوى إطار مكاني عام، مؤلف من كائنات تنتمي إلى عالمي الجماد والأثير "أحجار، وعلو، وغيوم، وريح، وأهواء"، بمنطوق غاستون باشلار، ومع ذلك يبدو كافياً لتعليق الوجود، والتعبير تالياً عن حال من الأسى باتت سيدة المكان والآن.
ولكن ما شأنُ الأعالي، وما فضلها في تجاريب الشاعر المُعاني ضحالة إبداع، ويأساً، وسأماً من الكلمات التي خلت من المعاني أو يكاد؟ أتكون موضعاً للإلهام يتسقطه بيسر منها، أم تراه تصعيداً لازماً في مسرى روحانية الشاعر، وإن مقتبساً من روحانية الانعزال من أجل الصلاة والتواصل مع الخالق، سيد السماء والأرض؟ للإجابة أقول إن للأعالي ومنها جبال لبنان، في تصور الشاعر خالد المعالي، كما في تصور أهل الشرق من قبله، مكانة قدسية، تريه "السماء صافية/ والأرض بواراً"، من عنده، في ثنائية ضدية بينة: رمز المثال ومكانه (السماء)/ يقابله رمز الفساد والعقم (الأرض). وفي هذا تتقاطع رؤية الشاعر مع رؤية شعراء قصيدة النثر، ممن قاربوا المسائل من وجهة نظر فلسفية عبثية، بينما نظرته وجودية وصوفية في آن واحد.
القصائد الخمس الباقيات هي بمنزلة مشهديات انطباعية، بل وقفات تأمل في يأس الكائن من فراغ المعنى، ومن طغيان السراب على الواقع، وفي مسار الكائنات البطيء صوب النسيان. وما على الراعي "الصموت" سوى أن يغادر صمته ويروي حكاية النجمة، ويصير العازف أورفيوس في الآن نفسه، ليغني " أغنية الذهاب والإياب"، ولكي يفلح جلجامش في انتزاع رفيق دربه "أنكيدو" من براثن الموت بلسعة أفعى: "وحين فتح عينيه كان مسربُ الأفعى، فيما ثوبها هناك" (ص:87).
للشاعر العراقي خالد المعالي العديد من الأعمال الشعرية، أهمها: "لمن أعلن دفتري"، و"عيون فكرت بنا"، و"خيال من قصب"، و"الهبوط على اليابسة"، و"العودة إلى الصحراء" وسواها. وقد ترجمت أعماله الشعرية إلى الألمانية والفرنسية وغيرهما. كما أن له العديد من الترجمات إلى العربية، ولا سيما الشعر الألماني.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech