دافيد فاغنر ينفذ إلى ذاكرة الأب التي دمرها الزهايمر
21-تشرين الثاني-2022
أنطوان أبو زيد
قد تكون الإطلالة الأولى للروائي الألماني الشاب دافيد فاغنر (1971) الذائع الصيت في بلاده، وذي العشرات من الروايات في رصيده، إلى كثير من الجوائز (أفضل رواية أجنبية لعام 2014، في الصين، وجائزة معرض لايبزيغ لعام 2013، وهي من أرفع الجوائز في ألمانيا) عبر روايته "العملاق النساء" الصادرة في الترجمة العربية (2022) التي أنجزها الكاتب المصري سمير جريس (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، خير مناسبة للتعرف إلى بعض سمات أدبه الذي بات منقولاً إلى 17 لغة، وللنفاذ معه إلى بواطن إنسانية لا تزال ظليلة إلى حينه، عنيت بها يوميات الشخص الكهل وقد أصابه مرض الزهايمر، مع مراراته وبعض لمسات حب وبنوة وكثير من التجوال، بالذاكرة الضعيفة والخائنة بين الماضي القريب والبعيد، لشخصية الأب النساء، والابن الراوي والرحالة لسبب غير معلن، في متن الرواية.
قد لا تكون رواية فاغنر الأولى في موضوعها، أعني التماس مع مرض الألزهايمر لدى فئة عمرية هي الكبار في السن، ولن تكون كذلك في جعل الشخصية المريضة - وهي محور الرواية وبطلها السلبي - والد الراوي، وإنما هي مقاربة الروائي للمعضلة الجسمانية والنفسية المعروضة، والنفاذ من خلالها إلى عوالم وآفاق لم تكن متوقعة.
الحوار الثنائي
لا يدع المؤلف دافيد فاغنر للقارئ مجالاً للتساؤل عن طبيعة الموضوع المطروق، ولا يضطر إلى توليفة أولية تبين له إطار الحدث ولا زمانه، وإنما يمد له طرف الحوار الثنائي الطويل حتى يكاد يكون الوحيد في الرواية، بين الراوي والمفترض كونه أباه، من آل دوبلاني، المصاب بمرض الألزهايمر المتلازم مع تلاشي الذاكرة للقريب، وتوقدها للبعيد، واستحضار لحظات الطفولة والشباب، من دون الكهولة. وما أن يبدأ الحوار الدافئ بين الشخصين، حتى يتضح للقارئ أن الشخصية المعنية تحيا في جوار مدينة بون الألمانية، وأن الابن الزائر كان قد استقل القطار ليبلغ أباه، وأن الأخير تقصد التخطيط لرحلات أبيه، عبر القطار والسيارة، حيناً بعد آخر، والسير به إلى جنازة أخيه وأخته، على التوالي - أي عم الراوي وعمته - والعمل على تصويب كل الفراغات التي أحدثها الزهايمر في ذاكرته القريبة، ما أمكنه ذلك، وصولاً إلى تبين موضعه هو، ابنه.
اللافت الأول في الحوار هو البعد الإنساني الذي لا يني يتسع، ويتعمق، ليشكل الخلفية الانفعالية التي يتوالى عبرها استذكار حياة الشخص النساء، السبعيني، والنظر بعيني الابن إلى ماضيه، وتكوين ما يشبه بانوراما لحياته الزوجية المتنقلة بين امرأتين، الأولى لا يرد اسمها، والدة الراوي، والثانية كلير التي كانت صديقة لزوجته، وقد دفعتها الأخيرة لرفقته إلى حفل موسيقي بينما كانت تعاني سكرات المرض الذي أودى بحياتها.
ولئن كان نافلاً القول إن النسيان، أعني نسيان الأب اسمه، واسم ابنه، وزوجته، بل زوجتيه، ومهنته التي تقاعد منها، وأسماء أخوته وأخواته، وتواريخ وفيات أقاربه وزوجتيه، كان السمة الأساسية التي يتسم بها البطل السلبي، فإنه سمح للراوي، المعتبر ابنه من زوجته الأولى، أن يتدخل ليملأ الفراغات التي تركته نسياناته في ما خص الزمن المعاصر له، والقريب العهد به. ولا يخفف، نداء السبعيني ابنه "بالصديق" من سريان خليط من مشاعر الألم بنكران الأبوة أو نسيانها بفعل الزهايمر، والفرح الخفر بوجود هذا الأب، والإحساس به، بل إعادة إحياء اللقاء المادي بين الابن ووالده بإمساك يد الأخير. "ينساب الراين الآن على يميننا، وعلى يميني يجلس أبي، أتناول يده التي تبدو مثل كف طفل، مع أنها كانت يوماً أكبر يد في العالم.." (ص:221)
مفاصل الحياة الألمانية
اللافت الثاني في الرواية الحوارية هذه، أن الراوي، ومن خلاله الكاتب دافيد فاغنر، لا يدع مفصلاً من مفاصل الحياة في ألمانيا المعاصرة، أعني في منتصف العقد الثاني بعد الألفين، ولا في الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهي الإطار الزمني الذي ما برح والده يتحرك فيه، إلا وتتطرق إليه طمعاً في تكوين صورة جلية عن أبيه، هذا الذي هجره وإخوته، لاحقاً بزوجته الثانية "كلير" التي فاقم موتها لسنوات قليلة خلت، من مرضه وضاعف من نسياناته. يرحل بنا الراوي - الابن مع أبيه، إلى المدن الألمانية، هامبورغ وبريمن، وبون، ودورتموند، وبرلين وغيرها من المدن والقرى، والمناظر الطبيعية، والجامعات التي كان والده يدرس في إحداها مادة التفاوض للاستثمار، والمفاعلات النووية التي يبدي حيالها الشكوك في كونها صديقة للبيئة، والطريق السريع القاصم ظهر الغابات والطبيعة والمهدد بزوالها، وآلات الأيباد التي تعرف كل شيء عن الكائن البشري وأكثر منه، وغيرها كثير من مظاهر الحداثة والعصرنة المفرطة.
ومع ذلك، لن تقوى هذه الملاحظات، بل اللكمات الموضعية التي يوجهها الكاتب للحداثة في ألمانيا، على حجب صورة الرجل العملاق النساء التي يجهد الراوي في رفء أجزائها، وإعادة حبك سيرته الماضية، بخيط الحوارات المتواصلة مع الأب، فيستعيد الأخير، بفضلها أغلب ذكرياته القديمة، منذ والده الناجي من الحرب الأولى، بعد مقتل أخوته الثلاثة في غمارها، وولادته قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، ونشأته في عائلة فقيرة، ثم ترقيه في الجيش إلى رتبة نقيب ورئيس فرقة، يتدرب "أفرادها على الهزيمة" (ص:87)، ومن ثم تحوله إلى الحياة المدنية سمساراً للعقارات ولقاؤه بالمرأة التي صارت زوجته الأولى.
اللافت الثالث في الرواية أن القارئ يؤخذ بإيقاع النسيان والتذكر يتأرجح بينهما العملاق النساء، والوصف والسرد، والتعليق النابع من صلب المشهد، يستخلصه الراوي حيناً وأخته ميريم، حيناً بعد حين. مثلما يندفع (القارئ) مع تيار الانفعال الصاعد وئيداً في نفس الرجل السبعيني، حالما وعى بؤس ما آل إليه بموت زوجته الثانية كلير، التي كان نسي اسمها أو أسقطه الزهايمر من ذهنه عنوة، ومن ثم وفاة أخيه، وأخته هيلدا، ومشاركته في جنازة كل منهما، إلى أن يبلغ في تأملاته حول أسماء أخوته وأبنائه وبناته مقاماً هو أقرب إلى الاعتراف والإقرار بالذنب، إذ يقول إن تسميته أبناءه بأسماء يهودية إنما كانت بدافع التعويض عن قتل اليهود وإبادتهم. ثم إن "كل شيء في الحياة هو في الحقيقة مجرد شيء مستعار... من الزمن.. وهو يستعيدها... مثلما استعرت حياتك، ويجب عليك يوما أن تعيدها" (ص:211).
أما اللافت الرابع في الرواية فهو عودة الروائي الألماني، وربما جيل الروائيين الألمان الشبان إلى معالجة قضايا تتصل بتكوين العائلة، والبحث في جذورها، والاقتراب من عقدة الذنب التي تؤرق الضمير الجمعي للشعب الألماني. وفي هذا يتراصف الروائي دافيد فاغنر مع عملاقين وهما هنريش بول وغونتر غراس، طبعا من دون تخليه عن خصوصية وجهة نظره المرتابة بالعصرنة والحداثة وبمشاريعها الهدامة للبيئة والإنسان. ولا يسع القارئ، في الختام، سوى التنويه بترجمة الرواية إلى العربية من الألمانية، على يد الكاتب المصري سمير جريس، فهي تؤدي المطلوب منها في نقل مناخات الرواية وأحداثها وخلفيات الروائي بأمانة وحيوية.