دولة في عقل موظف عراقي
29-أيار-2023
مسلم عباس
كتبت قبل أيام مقالاً بعنوان "دولة في عقل المواطن"، تحدثت فيه عن طموحات غالبية المواطنين العراقيين في تطبيق دولة المؤسسات الحديثة، والتي تصطدم بالبيروقراطية والروتين القاتل، حتى يضطر هذا المواطن المدني إلى ركوب موجات الرشوة والفساد لاستحصال حقوقه. ورغم كل التحديات ما يزال بعض المواطنين صامدين ومتمسكين بالدولة المدنية المؤسساتية.
اكتب اليوم عن الركن الثاني المفقود من الدولة المؤسساتية الحديثة، لكن هذه المرة انتقل من عقل المواطن إلى عقل الموظف.
صحيح أن نسبة لا يستهان بها من الموظفين يتسببون بالمتاعب للمواطن العراقي الطامح لتطبيق قواعد العدالة، إلا أنك لا تستطيع انكار وجود عدد كبير من الموظفين الناقمين على الهيكل الوظيفي العراقي والطريقة الرثة التي تسير بها مؤسسات الدولة.
فرائحة الفساد والرشوة ونظام الواسطة والمحسوبيات تزكم الانوف، ومن المهم التأكيد أن من يمارسون الوسائل غير القانونية يقابلهم أناس يرفضون خرق القانون.
كما يجب التأكيد أيضاً أن حماة القانون وأصحاب نظرية العدالة للجميع غالباً ما تجدهم في مواقع غير فعالة ولا يتمتعون بالمكانة التي يجب أن يتمتعوا بها، لأن نظام الترقي للمناصب والمواقع المهمة لا يجري بالطريقة التي يحلم بها دعاة العدالة والقانون. هناك وسائل أخرى معروفة للجميع ومتاحة لمن يريد تسنم منصب معين، لكنها لا تناسب أصحاب الدولة المؤسساتية الحديثة.
ورغم كل هذه الأجواء غير المشجعة على تطبيق القانون ما يزال عدد من الموظفين في مختلف مؤسسات الدولة صامدين ويصرون على الالتزام بقواعد القانون كونها السبيل الوحيد لحفظ كيان الدولة العراقية.
على سبيل المثال التوضيحي تحدث لي ضابط برتبة مقدم في الشرطة العراقية عن معاناته في محاولة تطبيق القانون، ليس بسبب معارضة المواطنين وامتناعهم عن الاستجابة لأوامره، فمشكلته داخل الدوائر الأمنية التي يعمل فيها، لأن المعاملات تجري على رصيف القانون دائماً.
يشاهد هذا الضابط كيف يتحول حاميها إلى حراميها، ويشاهد كيف يتم نقله من موقع أمني إلى آخر لأنه أصبح تهديداً؟
نعم الضابط يصبح تهديداً؟
لكن يهدد من؟
يهدد أمن جماعات الفساد المنظم المنتشرة في مناطق شاسعة من العراق، وهذا الفساد المنظم قد اعتبره مستشار رئيس الوزراء مظهر محمد صالح بأنه أخطر أنواع الفساد في العراق، ويهدد بكوارث للبلاد، وقد صنفت جريمة سرقة الأمانات الضريبة بأنها نوع من أنواع الفساد المنظم.
يحرم الضابط الذي يسير على الطريق المعبد من المناصب، وإن حصل على منصب معين تقيد حركته بشكل كبير ويحرم من صلاحيات عدة، بل قد تنقلب عليه الطاولة وتلفق له تهمة تضعه في زنزانة بجوار الأرهابيين أو تجار المخدرات.
اتحدث عما كانت تعبر عنه صفحات وجه هذا الضابط من ألم وحسرة من استشراء سوء الإدارة الذي يعاقب الموظفين المهنيين والضباط الملتزمين، أو يتم ابعادهم عن المواقع المهمة حتى تستمر عجلة الدولة الموازية بالسير على الأرصفة.
هل يعقل أن ضابطاً برتبة مقدم يتحول إلى كرة تتقاذفها تواقيع المسؤولين الأعلى حتى يتم التخلص منه بسبب رفضه النزول عن الطريق القانوني؟
أليس من العدل أن يكون مثل هذا الضابط هو المسؤول الأول حتى نستطيع بناء دولة تخدم الإنسان وتحمي الوطن؟
هل يعرف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ووزرائه بما يجري في وزارات الدولة؟
نعم السوداني يعلم جيداً بما أتحدث عنه، بل سبقنا بالافصاح عن حجم المعاناة في النظام الإداري العراقي، وقال حرفياً قبل تكليفه برئاسة الوزراء بأن بعض قرارات رئيس الوزراء لا تنفذ لأنها لا تخدم مصالح جهات معينة.
وبما أن السوداني لديه حملة لتغيير المدراء العامين والدرجات الخاصة، ننتظر منه أن يوظف المدراء الجدد من الموظفين المؤمنين بدولة المؤسسات والحريصين على تطبيق قواعد العدالة على الجميع.