رؤية مقدمة لنهضة المنجز الفني «سينما وتلفزيون»
19-حزيران-2023
صالح الصحن
(الجزء الثاني)
• الأعمال النادرة
من الطبيعي ان يتداول عامة الناس باسماء الشخصيات الدرامية التي كان لها وقع كبير في الذاكرة وبمستويات متفاوتة من الاعجاب أو الرفض لهذه الشخصية أو تلك وقد تصل" إلى حد ان تطبع في الاذهان كما يقال" مع تردد وتكرار حوارات الشخصية وحركاتها وطبائعها، وهذا ملمح من ملامح قوة التأثير الذي تتركه الأعمال النادرة في ذائقة التلقي ومسلسلات النسر والذئب وعيون المدينة وفتاة في العشرين واعماق الرغبة واجنحة الثعالب والأماني الضالة وعالم الست وهيبة وابو طبر وسارة خاتون والحب والسلام وسيدة الرجال وأمطار النار وجرف الملح وجذور واغصان ومواسم الحب، وغرباء واعلان حالة حب والهجرة إلى الحب ، وليالي الحلمية والرأية البيضا ورافت الهجان وباب الحارة وعائلة الحاج متولي، وغيرها"، وعذرا هناك الكثير من الأعمال الدرامية والأفلام الشهيرة المشمولة بمثلنا ولكن لم نذكرها، لضرورة الاختصار" فتاريخ السينما حافل بالتحف الفنية النادرة من روائع الافلام المعروفة لم تسع السطور لها، والتي طرحت العديد من المواضيع والشخصيات المتميزة بسماتها المتفردة والمثيرة والجذابة.
وسؤالنا: اين نحن من هذا؟ واين الذاكرة التي تكاد ان تفرغ لعدم وجود أعمال جديرة بالتصاقها في ذاكرة الجمهور؟ وهل نستطيع أن نطلق على أعمالنا، ذات التوصيف الذي يطلق على أفضل الأعمال العالمية كالروائع والتحف الخالدة، وغيرها؟
• دراما الاطفال
تخلت العديد من القنوات الفضائية وشركات الانتاج المختلفة عن الاهتمام بتنشئة جيل الطفولة وعدم تخصيص مساحة بصرية له في ذاكرة الانتاج والتخطيط، بل وتركته يبحث عن ما تعرضه الشاشات العالمية الملطخة بالتشويه والانحراف والوقاحة تحديا لكل ما هو بريء في عالم الطفولة والتجني على ثقافة البراءة والحياء، ولهذا نجد ان أطفالنا في خطر يصعب مكافحته، الأمر الذي يحرضنا بالسؤال: لماذا لا تخصص الدولة او الشركات المختصة بالإنتاج البصري مشاريع اشتغال دراما الاطفال وما يلزم من برامج الطفولة الملونة، لمحاولة جذب الاطفال إلى جادة الثقافة والادب والتربية والتهذيب بتسلية وترفيه نظيف وخال من الدس والتطبيع مع كل ما هو شاذ، سيما وان العديد من المؤسسات والمنظمات تحمل اسماء وعناوين تدعي التخصص برعاية ودعم الطفولة، وصراحتنا معهم بسؤالنا: هل تصل إلى أطفالنا في القرى والارياف مجلة أطفال بعشر صفحات ملونة؟ اكيد لا تصل حتى في العاصمة وبنسخ غير كافية..
• الرقابة
في طقوس وسياقات الثقافة والفنون يلزم وجود الرقابة والفحص والتقييم رغم سعة مساحة الحرية المشاعة في هذا الوسط أو ذاك، ولكن هذه الأيام يبدو أن الرقابة حلقة فائضة عن الحاجة في العديد من الأعمال ولهذا نسأل: اين الرقابة وهيئة الخبراء الرئيسية التي تفحص النصوص قبل تنفيذها؟ واين الهيئة المركزية التي تفحص الافلام والمسلسلات قبل عرضها، حماية للذائقة العامة، سواء كانت الأعمال حكومية ام من شركات وقنوات فضائية؟ وبفقدان الرقابة وفحص الخبراء تكون الشاشة قد امتلأت بما ينفع وما لا ينفع الذي قد يؤدي إلى خلق شرخ حاد في بنية المجتمع، او خلق أزمة ما، او تجاوز على الحدود المسموح بها أخلاقيا وسياسيا وروحيا، وما إلى غير ذلك من تلاعب بذائقة الجمهور.
• المنجز الفني بين الدراسة والانتاج
إن الاهتمام الكبير بالعلوم والفنون السينمائية عبر معاهد وكليات الفنون الجميلة وبأعداد تتنامى سنويا في المحافظات، حالة صحية جدا وتسهم في بناء جيل علمي فكري معرفي يتطلع لاقتناص الفرصة للعمل السينمائي والتلفزيوني اذا ما توفرت بالشكل الصحيح، وهناك جيل من الاساتذة والخبراء والباحثين يشكلون مصدرا معرفيا وفكريا وفلسفيا في التحليل والتشريح والتقييم والتقويم للاعمال الدرامية والسينمائية، وكرافد مهم يجاور المؤسسات الانتاجية ويدعمها، ذلك ما هو سائد ومتوفر في اغلب المجتمعات الناهضة في صناعة الاجيال الشبابية ،. ولكن السؤال يمكن ان يكتسب شرعيته، لماذا تزداد اعداد الدارسين والمتعلمين والشهادات العليا في دراسة السينما والتلفزيون مع ضعف نسبة مستوى انتاج الاعمال؟ فليس صحيحا، هناك عدد وفير من اساتذة السينما والتلفزيون في بلد يعاني من انتاج الافلام والدراما التلفزيونية!! بما لا نلقي السبب على المؤسسة التعليمية واساتذتها الافاضل ابدا، وإنما على المؤسسة المكلفة رسميا بالإنتاج ولم تنتج، الامر الذي يجعلنا ندعو الى التوازن والتخطيط المنظم في حقل الانتاج. وحقل التعليم. ونسال أيضا: لماذا لا تترصد الدوائر المختصة وتختار طلبة السينما والتلفزيون الذين يحققون الجائزة الأولى في الاخراج، وفي السيناريو وفي التصوير وفي المونتاج والتعامل معهم برعاية واهتمام ودعم كبير ومنحهم فرص عمل اضافية لاشتغال افلام أو مسلسلات أو برامج كبيرة، واستثمار مهاراتهم الجيدة؟
• بين النقد وقلة الانتاج:
انتعش النقد السينمائي والتلفزيوني في البلاد بكثرة انتاج الافلام والاعمال التلفزيونية، وتحريك منظومات التحليل والتفسير والتاويل والكشف الجمالي لمعطيات هذه الاعمال والمواضيع التي تتناولها، ولكن هل من المعقول ان يتنامى النقد في ظل ركود الانتاج؟ ويمكن القول (لدينا نقد وليس لدينا افلام ومسلسلات تصل إلى التسويق). وهذا ما يدعو الى جفاء الحقل السينمائي والتلفزيوني من مسببات التذوق والتلذذ بالمتعة الفنية، نعم هو السائد الان، والذي يشكل استياء وتذمرا لدى الكثير من الاوساط الفاعلة والمجاورة للحرفة السمعية البصرية، وان كتابة النقد الفني لدينا متباينة؛ فمنها ما هو للتشجيع وتحفيز التجارب الأولى أو للمجاملة، والمبالغة، والمدح، ومنها لاغراض التسقيط احيانا، والتهجم والازدراء احيانا اخرى، وبين ما يكتب احيانا من كتابات صائبة موضوعية و منهجية، مدركة لاصول الحرفة النقدية، في التشخيص والجراة وصواب التفسير، عبر مهارات تجيد فن اللغة النقدية البصرية، بعيدا عن العاطفة والانفعال.
• حساسية الاجيال
المخرجون والكتاب والممثلون والمصورون والفنيون في السينما والدراما الان يشكلون (اعدادا) و(انواعا) نادرة ومن اجيال مختلفة، لكن لماذا تنمو ظاهرة الحساسية بين الاجيال؟ وهناك من يفسر ان الشباب لم يروا الا أنفسهم، وهذا خطأ فعلا، نقولها: ان تفاعل الاجيال بروح القبول واحترام تجارب الاخر، يعد شرطا حضاريا ومهنيا عاليا، فهناك ثلاثة اجيال منهم، من هو رائد، ومنهم من ينتمي الى جيل الوسط، واخيرا الجيل الجديد هو جيل الشباب، وانتماء للسينما والدراما واحتراما لمكانتها الجمالية والذهنية، علينا ان نطلق الاعجاب للجميع مع فارق المستويات بين هذا وذاك، لاننا الان بحاجة ماسة لبناء جدار سينمائي كبير، تكتب فيه مآثر كل الاجيال الفنية المبدعة، ومن دون استثناء وبمنتهى المحبة والاحترام والتفاعل المهني والانساني المتحضر دون ادنى حساسية، من اجل رفعة الدراما والسينما العراقية، وبمعنى ادق، علينا ان ينهض احدنا بالاخر، دون ان يطعنه وينتقص من قيمته، فالأنانية النرجسية والمزاجية الحادة، أمراض غير مرغوب فيها في المجتمع الجمالي.
• تخصص التمثيل
ان الممثل العراقي اخذ مساحة واسعة في الحضور المحلي، ومساحة اقل عربيا، ذلك بسبب سياسة الانتاج والتسويق التي لم ترتق الى ما نطمح اليه، فالممثل العراقي له القدرات والمؤهلات الابداعية النافذة للنجومية والشهرة والانتشار العربي والاقليمي، ورغم ذلك نحن نسأل: هل هناك ضرورة الى انشاء معهد عالي متخصص للتمثيل بحسب الوسيط "مسرحيا وتلفزيونيا وسينمائيا" ، للوصول الى مستويات واعية ومتقدمة في الاداء الذي يميز الاختلاف الحاصل بين الاوساط المختلفة، بما ينطوي على التنوع الحاصل في مدارس التمثيل من أساليب وطرائق وافكار وفلسفة، وهذا ما يدعونا الاشارة الى بعض المخرجين والممثلين ان يتخلوا عن اسلوب قراءة الممثل "لدوره فقط" دون الاطلاع على النص بأكمله، بما يجعله يجهل لغة وفلسفة وتفسير الفيلم او المسلسل ، دون أدنى مسوغ لذلك، فضلا عن ان الممثل أو الممثلة يجب عليهما الخضوع للمزيد من التدريب على بعض الأدوار الجديدة على حياتهم، مثلا شخصية مجنونة، او لاعب مبارزة أو ملاكم أو سائق مركبة أو عازف على ألة معينة او دور طبيبة جراحة او امرأة ليل وقحة أو اي دور لعاهة أو مهنة صعبة.
• المهرجانات
عادة ما يشترك البعض من الفنانين بمهرجانات عربية واقليمية وعالمية بفعل الجهود والعلاقات غير الرسمية، وبما يحقق فوزا و حضورا مهما يليق باسم البلد وسمعته الثقافية والفنية العريقة، لكن لماذا لا تتبنى المؤسسات الفنية والثقافية المختصة رصد مثل هذه الانشطة الابداعية الفائزة المتفردة والمتميزة في البلاد وبحسب التخصص؟ ودعهما وتكريم صناعها ورعايتهم، والعمل على إشراك اعمالهم في المهرجانات الخارجية وتحت غطاء حكومي رسمي يمنح المشاركة هيبة اكبر وقيمة عليا تصب نتيجتها لسمعة البلاد وحجم مشاركته في المهرجان.
• الحضور والمناقشة
إن جلسات مناقشة الدراما والسينما في أماكن مختلفة وبحضور كبير من المعنيين، امر يسهم في التوصل الى حلول ناجعة، بل وتشكل تواصلا فاعلا مع المشهد الفني، فالحاجة تتطلب جلسات خاصة بمناقشة الأعمال الفنية في العراق، والإجراءات التي تنهض بالمنجز العراقي بوصفه قيمة ثقافية وفنية عليا، نحن بحاجة الى ان يلتقي كل المختصين بمناقشة النص واسلوب الكتابة والممثل واسلوب التمثيل، والمخرج والتقنيات المتطورة في الاخراج، وكذلك مشكلات الانتاج وكل ما يتعلق بالمنجز. و نقول أيضا، هل ان احاديث المقاهي كافية لمناقشة مشكلة مهمة وكبيرة في قطاع واسع من الحياة الفنية، الا وهي الدراما والسينما؟ نقولها، نريد أكثر من جلسة وجلسة وبروح العقل الراجح والقلب المحب لرسم خارطة طريق وستراتيجية عالية الشأن لتطوير العمل الفني في البلاد وعلى وفق نظرية الجمال القائمة على التخطيط والتنظيم والتنسيق والدراسة والإحصاء والتشخيص والرصد والتوازن والتحليل الدقيق، وليس بكلام عابر من "المجاملات" والمحاط بضجيج لا ينقطع.
• التطهير من الأخطاء
سؤال قد يشمل البعض، وهو: هل باستطاعة الفنان مهما كان عمله، مراجعة ذاته، بحثا عن التطهير، وتشخيص مستويات الأخطاء التي نالت من عمله، والرغبة الجادة في تجاوز مثل هذه الأخطاء استعدادا لتطوير الحال؟ فاعمالنا كانت مرشدا للدلالة على أخطاء واضحة، وعلينا أن لا نسرق نصا ولن نختار نصا هزيلا، وان لا نضيع في تفسير النص، ولا نخطئ باختيار ممثلينا وممثلاتنا، واماكن الأحداث، وان لا نتجاهل انسجام لهجات الشخصيات مع بيئتها، وان نجيد فن التمييز بين الواقع والفن، وان نأتي إلى مواقع التصوير ونحن بكل استعداد ورسم لمخططات حركة الممثلين وحركات الكاميرا وموقعها، والخطة الاخراجية لكل مشهد وان نحسن صنع نوع الحكاية بتشويق وإثارة واستجابة، وهل نضمن ان عملنا يشاهد خارج البلاد؟ وهل يحمل مواصفات التسويق والنجومية؟ وعلينا أيضا ان تتسم تعاملاتنا مع العاملين جميعا بحسن التعامل وضمان الحقوق دون مساومات، وان لا ندع العاملين يتهامسون على طريقتنا الاخراجية المثيرة للاستغراب بنقاط الضعف، وان لا نتخلى عن دقة الادارة الفنية في رسم وتنفيذ كل شيء بشكل مدروس.
• التأقلم مع تقنية المتغيرات
في ظل المتغيرات التقنية الحديثة في الصنعة البصرية وفي سرعة العرض وباحدث الأجهزة المتطورة، هل بالامكان تخطي ذلك، ونذهب الى دور السينما المغلقة لنشاهد الافلام؟ نعتقد ان مثل هذه المتغيرات قد ألقت بتاثيراتها المباشرة على اسلوب التلقي المرتبط بواقع الحياة وايقاعها الجديد، في الوقت الذي يصلك الفيلم الجديد الى جهازك الشخصي حالا دون أدنى عناء.. انها تقنيات لا خصوم لها. ولكن ما السبيل للتأقلم مع هذه المتغيرات دون أدنى خسائر؟ وكيف نهتم بمؤسساتنا الفنية المنتجة، دون ان نمتلك أحدث منظومات التصوير من مختلف الكاميرات وملحقاتها المعقدة في العدسات واجهزة الاضاءة والصوت والحركة، وأحدث منظومات المؤثرات البصرية والمونتاج وأجهزة خلق الحيل المبتكرة والخدع البصرية، وخلق الأجواء الخاصة من غبار ورياح واعاصير وأمطار وانهيارات مختلفة الاشكال، مع الحاجة الضرورية إلى معرفة الخبرة المتقدمة بفن المكياج واخر ما توصلت له هذه المهنة من ابتكارات؟
• المعالجات السامية
في ظل الظروف الدقيقة التي يتصارع فيها المرء مع التحديات الداخلية والخارجية الكبيرة سياسيا واقتصاديا، فكريا وجماليا وثقافيا وأخلاقيا وحضاريا، وغير ذلك، نرى ان قطاعي السينما والدراما لهما الدور الأكبر في تحصين المرء فكريا وجماليا ثقافيا معرفيا ومهنيا ونفسيا وروحيا، في بث نسائم الثقة والامل في الحياة التي يدعو لها الفن على ان تكون أكثر نبلا وسموا واكثر ترفعا عن الأمراض والاشتباكات التي تستهدف استقراره وتوازنه، وهذا ما يتطلب الاشتغال الاخراجي والتقني المتقن للنصوص الرصينة المشبعة بالادب والجمال.. وفي ضوء رؤية عميقة و معالجات سامية، وليكن في برنامجنا الثقافي والفني تصميما راسخا بالاعتقاد ان الفنون البصرية، هي اللغة الثقافية السائدة اليوم في حياة المجتمعات والشعوب، والاكثر تعبيرا وتأثيرا في صنع هوية خاصة بهذا المجتمع أو ذاك، وبمستويات تشهر الفخر والإعتداد.
انتهى..