محمود وهبة
تعيد الكاتبة والممثلة الفلسطينية رائدة طه تقديم مسرحيتها "ألاقي زيك فين يا علي" على خشبة مسرح المدينة، بالتعاون مع نادي "لكل الناس" بعدما قدمتها سابقاً، لكن المسرحية تكتسب اليوم في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة بعداً أشد إنسانية، حتى لتبدو كأنها صرخة عميقة طالعة من قلوب الفلسطينيين . المسرحية التي أخرجتها لين أبيض، هي بمثابة شهادة حياة، أو قصة واقعية لرائدة طه وعائلتها وكل عائلات الضحايا الفلسطينيين. استذكار وعرض لحالة مأسوية تحمل خلفها قصص الفلسطينين الذين بذلوا أنفسهم من اجل القضية .
تطرح المسرحية موضوعات عدة وتحمل أحاسيس تتوالد لدى كل من يشاهدها. كلنا لدينا خوف من الموت ولدينا شوق إلى الأهل. كل هذه المشاعر الشخصية تنطلق منها رائدة طه لتقديم قصتها بعيداً من كونها مجرد سيرة وقادرة على الوصول إلى شريحة أكبر وملامستها بصدق أكبر. ومن خلالها تثبت طه أن المسرح ما زال يمتلك القدرة على تأريخ ما يحصل وتدوينه فنياً، فالنص المكتوب بطريقة ذكية وأحياناً لاذعة يتماوج بين حزن وفرح وبكاء، وردود فعل شبه مدروسة ومشاهد بحث عن صورة الأب ورؤيتها له.
تحل رائدة طه محل الراوية هنا التي عاشت الحوادث الجسيمة، تنقل القصص المأساوية. العمل مقسم إلى فصول، يبدأ كل فصل مع إضاءة النور المسلط على الكنبة، وتبدأ هي بالسرد والتداعي. النصف الأول من العرض يظهر وكأنه تمهيد لما سيأتي بعده. لا تصدمك طه بالألم الفلسطيني، بل تستهل كل فصل من الفصول القصيرة التي تألفت منها المسرحية بضحكة وتختتمها بصرخة. هذه اللحظات المعتمة بين إضاءة وأخرى هي فرصة تعطيها للمشاهد للتنفس في العتمة.
يظهر العمل وكأنه توصيف عام لكل الضحايا، أو بمعنى ما تبجيل لهم أنفسهم الذين دائماً ما يتم الحديث عنهم، أو يجري وضعهم في مقامات أيقونية معينة، بمعزل عما خلفوه وراءهم، من حزن وغضب وحرمان. ولا أحد يجرؤ على التفكير بأي شيء آخر خارج هذه الدائرة. ما الذي يجري مع عائلة الضحية عندما تقفل الأبواب؟ عندما ينتهي الصحافيون والإعلاميون ورؤساء الأحزاب من الإدلاء بمواقفهم الحماسية؟ ما الذي يجري داخل البيوت؟ وكيف تتفاعل الفتيات مع القصة حين يكتشفن على حين غرة أنهن أصبحن بلا أب وأن هذا الأب لن يرجع؟
خلال ساعة ونيف تسرد رائدة، ابنة علي طه، قصتها التي لا تخلو من المقاومة والصمود، تحكيها وكأنها قصة من نوع آخر. قصة هي رحلة في عالم ذكريات زوجة وابنة وأخت، بدلاً من الحديث عن الوجه الآخر، طارحة عبر سرديتها أسئلة عدة: ما التضحية؟ ما معنى أن تذهب إلى المدرسة وتعود لتجد نفسك أنت ابن ضحية؟ كيف نضجت في فكرها القضية الفلسطينية؟ تداعي أفكار ومواقف وأحوال، فيه من الأحاسيس التي تنتاب رائدة الابنة وفتحية الأم والعمة سهيلة ومواقفهن وتبدل أحوالهن الحياتية.
تفتح "ألاقي زيك فين يا علي" الباب على التفكير في أهمية القصص التي تروى والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسيرة القضية الفلسطينية، مهمة نقل هذه القصص تسند إلى رائدة والعمة التي تدخل في شريط مصور في نهاية المسرحية. تبرز هذه القصص في مواجهة السردية التي تقدم على لسان الإسرائيليين. فمن يستمع إليهم في رواية التفاصيل والمجريات الأليمة يدرك أهمية أن يتحدث الفلسطيني اليوم وأن يخبر كي لا ينسى العالم، وكي يبقى من يؤرخ لما يحصل ويذكر بوجود هدا الفلسطيني في هذا العالم.
الفتاة التي كانت تبلغ من العمر آنذاك سبع سنوات وهي شقيقة لأخوات ثلاث أصغرهن عمرها ثمانية أشهر، فتيات لم يستمتعن بوجود الأب في حياتهن، تسأل الفتاة عن عدم وجود الأب في الحياة، هل هو أمر طبيعي مثلاً؟ ليس بالضرورة أن يكون الوالد ضحية، قد يذهب بحادثة سير أو مرض، لكن السؤال الأعمق ما دام هو ضحية: إلى متى يستمر فعل الموت؟ إلى متى تظل تحصل هذه الجرائم أمام أعين العالم؟ بعد 50 سنة من غياب علي، ما زالت تهدر شلالات الدم وجرائم القتل والأسر والاعتقال والتدمير؟
لم تكتف رائدة طه بوضعنا في الإطار الزمني والمكاني للحكاية. بل نقلت من خلال صور وفيديوهات، عن جلسات حول فناجين القهوة، والأكف التي تحتضن وتواسي بعضها بعضاً، وأكواب المياه، وصور التعب والحالة المشحونة وغير المستقرة لهذه العائلة بعد غياب الأب. وتناولت موضوعات أخرى هي عبارة عن موضوعات جانبية أو وسيطة: النعرات اجتماعية، وحالة الإغتصاب، والذكورية والتأنيب الدائم، ومفهوم اليتم الذي انطلقت من خلاله من يتمها الشخصي لتعممه ويصير بصمة اليتم الفلسطيني.