رمزية السجن في رواية «غابات الإسمنت» لذكرى لعيبي
15-أيار-2023
صالح الرزوق
تنتمي رواية (غابات الإسمنت)* لأدب الأماكن المغلقة، وموضوعها جريمة شرف، تقتل فيها الزوجة إنعام زوجها الخائن. ولا أعتقد أن رحلة إنعام من السجن إلى المخابرات ثم إلى لندن، بعد تغادر دائرة محكمة الإغلاق، مع أن كل الإشارات التي وردت في الرواية تنظر إليها من الخارج. ورغم اختلاف مجتمع السجون عن جو المخابرات، ناهيك عن الفضاء الكوزموبوليتاني لمدينة لندن، لا تبدي إنعام أي تبدل سلوكي أو نفسي، وتحافظ على لكنتها المتعالية المشحونة بشيء كثير من البغضاء ضد ما تقول عنه آلية الإدارة في مجتمع ذكوري.
ولكن دائما يأتي إلى ذهني السؤال التالي:
ما دامت الإدارة مذكرة حصرا أين كانت إنعام في لحظة وقوع زوجها بالخطيئة، وهو فعل شائن متكرر ومحدد، بمعنى أن مكانه معروف، وهو من المواضع المطروقة عند النساء في مجتمع الرجال. فمكان المرأة حسب معطيات الرواية يجب أن يكون المطبخ وغرفة النوم.
أما النصف الثاني من الإشكالية كما يلي: مادام الجرم علاقة محرمة بين اثنين، هذا يستوجب بالضرورة مشاركة نسائية، الأمر الذي يعني أن الرقابة ليست محكمة على النساء، وأن احتمال الخطيئة بسيط ووارد. وقد لاحظت هذه الاستنتاجات في روايات عربية طليعية منها (نقطة النور) للمرحوم بهاء طاهر. وموضوعها مبنى آيل للسقوط في حي شعبي. ومن هذا الباب يدخل الراوي إلى حياة سكان المبنى، وللأسف لم تسلم بنت شريفة من أن تخطئ، كأن ذكور القاهرة في هذه الرواية مثل ثقابة الورق. ليس لديهم هم غير امتطاء البنات الصغيرات، وتوريطهن بعلاقة محكومة بالفشل، لكنها ستنتهي بانهيار المبنى، أو ستتحول إلى مشكلة اجتماعية يحاصرها العار، لو نجح مشروع الترميم.
ولكن حتى هذا الاحتمال غير موجود عند ذكرى لعيبي فقد حكمت على الزوج الخائن بالقتل، وعمدت زوجته بالدم، وأودعتها السجن. والتعميد دليل على ولادة وليس على موت. ولذلك أرى أن دخولها السجن كان بمثابة ولادة ثانية، وبعدها يبدأ مشوارها الحقيقي، وهو الولوج في أعماق الغابة. وإن كان السجن عقوبة رادعة الغاية منها العقاب والتقويم، فهي تخالف القاعدة، ولا ترتكب فيه ذنبا واحدا مثل زوجها، بل تقع في ثلاث ذنوب.
أولا تقبل أن تصبح خليلة لابتسام مديرة السجن، فننتقل من خطأ الزنا إلى المثلية، وهو أيضا فعل شائن من ناحية الأعراف والدين. بمعنى أن العلاقة مرفوضة سلفا من قبل الدين الاجتماعي والروحي بنفس الوقت. ووجود مثل هذه الإشكاليات النادرة، والتي يجري التكتم عليها، لا يعني أنها حالة وجودية أو قضية تنخر في مجتمعنا كالدود في الخشب. فهي علاقة مستهجنة ولكنها ليست قضية تشغل بال مجتمع السجينات. وهناك أمور أهم كنت أنتظر من ذكرى لعيبي أن تتوقف عندها. ولا أقصد أسباب إيداع السجينات في السجن، وإنما ماذا وراء كل واحدة منهن، وما طبيعة المجتمع الذي يرشح النساء لملء السجون؟؟.
على ما أذكر أن للرواية السعودية نصيبا أوفر في مثل هذه الموضوعات. ومن بين من كتب عن ذلك صبا الحرز وزينب حنفي ووردة الصولي (ولكن هذه الأسماء على ما يبدو وهمية والحالة معروفة لعدة أسباب ومن أمثلتها القاصة الايطالية إيليا فيرانتي). ومجرد التستر وراء اسم مستعار يعني وجود مانع، إما أنه الدولة أو المجتمع، وربما الطرفان.
لكن ليس هذا هو حال الأدب في العراق أو لبنان ومصر وسوريا. ففي هذه البلدان الفيتو غالبا أمني ويتعلق بالاتجاه، وما عدا ذلك ينعم الكاتب بالتسامح والتساهل حتى أبعد الحدود. حتى أن حيدر حيدر المتهم بالعبارات المكشوفة والتشجيع على الفاحشة نشر قصصه (ومن بينها القصة المدانة - رقصة البراري الوحشية) في الإعلام الرسمي، وبالتحديد في "ملحق الثورة الثقافي". ودافع عن لغته وأسلوبه رئيس التحرير وإدارة المؤسسة التي تمولها الحكومة. ووجدت روايته "وليمة لأعشاب البحر" مكانا لها في سوق الكتاب السوري، وطبعت عدة مرات، دون أن يلحق بها أي شطب ولا تعديل (ولم تخرج إدانة شيوخ الأزهر لها من عتبات مكاتبهم). والحقيقة أن التهمة مبالغ بها جدا (وقد أكد ذلك سمير سرحان مدير عام هيئة الكتاب المصرية التي نشرت الرواية). وكل ما في الأمر أفكار مجردة عن الإيمان الحقيقي والإيمان الكاذب، ثم ورود كلمة القرآن وبعده كلمة غير مستحبة. ولكن كانت بينهما نقطة، وهي أشبه بإسدال ستارة على موضوع والانتقال لغيره. فالنقطة في النص ححاب أو أنها جدار بين فكرتين. وتساهل الحكومة السورية مع الرواية لم يقابله تساهل مماثل مع هجائيات نزار قباني الموجهة إلى الدولة التي حكمت سوريا بين 1966-1970. وهذا محور آخر يسلط دائرة الضوء على رواية "غابات الإسمنت" وهي موضوع كلامنا.
أين ذهبت أخطاء النظام السياسي. وهل مشكلتنا أننا نتعامل مع دولة يقودها الرجال؟
ولو أن الأحداث تدور قبل السقوط والغزو نحن أمام فرصة مثالية لربط الانحراف والجنايات بأسبابها الحقيقية، وهي شلل النظام السياسي وهيمنة الأمنيين والعسكر عليه. وإن كانت بعد صيف عام 2003 نحن أمام حكومة انتقلت بشكل راديكالي من العلمانية إلى الدين. وأيضا أمام مجتمع مجزأ ومقسم، تحكمه ميليشيات وكونتونات وضعت النظام الجديد في حالة عدم توازن وبمواقف محرجة. وهو مجال خصب يساعد على رؤية الخلل الحقيقي الذي هيأ بغداد لتسقط في أحضان إيران وأمريكا بعد أن كانت قوة ثالثة في الشرق الأوسط.
وربما هذا هو مبرر حبكة الروائيات السعوديات. فقد كانت أخطاء البنات مجرد حفرة في الجدار أو عين ساحرة ينظر منها المجتمع الصغير - البنات إلى ما يجري في المجتمع الكبير - الوطن، ولا سيما في مجال الصناعات التحويلية وصناعة السياحة، ثم صناعة التنوير (فالكلام عن عصر تنويري قد انتهى وقته ودخلنا في حقبة بيع المعرفة - وأصبح تنوير العقول سلعة مثل تحلية الماء المالح واستصلاح الصحراء). وقد عرفت كل كاتبة منهن كيف تدير أزمتها مع غرامها الممنوع، كما كان يفعل السوري هاني الراهب في مجتمع الطلبة. فقد استفاد من السكن الطلابي والمقصف - مطعم الطلبة ليكون عينه الساحرة أو المنظار الذي يراقب به مجتمع الهزيمة. وكانت الخطايا التي يورط بها شخصياته تعبيرا موضوعيا عن مشاعر الندم التي غمرت مجتمعنا العربي كله بعد هزيمة حزيران. وعاد إلى نفس اللعبة في أعمال لاحقة ليعبر عن أسفه في بكائيات محزنة يرثي بها حصار بيروت وخروج المقاومة بشاحنات تستعمل لنقل المواشي (انظر روايته "رسمت خطا في الرمال"). هذه الهزائم الاجتماعية والوطنية لم تجد صداها في "غابات الإسمنت"، مع أن الفرصة متاحة للتوقف مطولا مع مشكلة السقوط السياسي - النفق الأسود الذي تتعايش معه بغداد، المعروفة باسم عاصمة الرشيد.
وطبعا لا يوجد إملاءات على أي كاتب. ولكن الحزام المتحرك الذي وقفت عليه في السجن إنعام ثم ابتسام يؤهل العمل كله لمثل هذه المقاربة، ولا سيما أن الحصن الثاني الذي تنتقل له إنعام هو مباني المخابرات، وهو ما ينقل الرواية من جو جنائي إلى جو سياسي بوليسي استهلكت الرواية العراقية ثلاثة أرباع حياتها في الكلام عنه. وظاهرة الرئيس السابق صدام ومجتمع الغزو فرصة ذهبية لإغناء العمل بمثل هذه الهموم التي لا يخلو منها بيت. حتى أن الإحصائيات تشير أنه بين كل ثلاثة بيوت في العراق يوجد منزل فقد واحدا أو أكثر من أعضائه إما بالحرب مع إيران أو في انتفاضة رمضان بعد غزو الكويت أو في الأحداث اللاحقة للغزو وانتشار دولة الخلافة. وبلغة الأرقام الرسمية توفي 60 ألف عراقي في الحرب مع إيران. وبلغ العدد في حرب الكويت 75 ألف قتيل، أضف لذلك 30 ألف أسير. وبلغ عدد ضحايا الغزو الأمريكي 30 ألف قضوا بطريقة عنيفة منذ أول رصاصة وحتى 9 نيسان 2003. وينسب لعمال المشرحة أن الأرقام الرسمية أقل من الحقيقية لتخفيف الأثر النفسي على الأحياء، وهي تعادل 30 - 50 % فقط والسبب عدم إدراج عدد من اختفوا وماتوا دون أن يدخلوا المشرحة.**
أين تقف السجينات وإنعام من هذا المسلسل الدموي؟
لقد عاشت إنعام في أوهام ذاتية، ولم يشجعها السفر إلى لندن للتخلص من دائرة الحب الوهمي، ولم تدخل في لندن بغمار المعركة الدائرة بين الحضارات، حضارة ورق - خطابات وبيانات - على وزن النمور الآسيوية التي ترهن سر بقائها بالدولار - وحضارة ميتروبول - تعمل مثل مجففة وآلة تفريغ - وهي طاحونة استعمارية تقرض حتى الهواء والضوء. ولم تشاهد إنعام من البيكاديلي غير تمثال كيوبيد، وغاب عن ذهنها شارة مطاعم الويمبي التي تبتلع يوميا الآلاف من شباب العالم وتعيد انتاجهم وضخهم في شوارع لندن بعقلية مختلفة. وكذلك لم تنتبه إلى دكاكين الرقيق الأبيض المصفوفة على طول شارع أوكسفورد التجاري مثل طابور سيارات طويل أمام ميناء بحري.
وبعيدا عن أي سوء نية أعتقد أن رواية (غابات الإسمنت) وضعت الأصبع على الجرح، إن لم تنظر لكل التفاصيل فقد اكتفت بعدة لمحات رمزية، وجهزتنا للنظر إلى واقعنا المعاصر على أنه سجن، وإلى أن أصل حياتنا جناية معمدة بالدم (منذ اغتيال قابيل لأخيه هابيل)، وأن كل مسيرتنا عبارة عن حب أشياء ممنوعة يخص بها النظام القمعي الأعرج نفسه ويحرمنا منها. بالإضافة إلى أنه يجند طاقاتنا لحراسته وخدمته. ولذلك نعمى عن كل شيء ولا يبقى فينا قوة للنظر ونختصر أهدافنا بمجموعة أمنيات، وعلى رأسها رمز الحب والخصوبة، وهو تمثال كيوبيد الذي نراه معلقا في الهواء في وسط ساحة البيكاديلي.
وقد كانت الشخصيات (في جزء كبير من الرواية) مشخصنة ومعبرة وحاملة لمقدار عادل من الأفكار. بمعنى أن افكارها بحجم الخطاب الذي تسمح به بنية كل شخصية، وهذه بداية مشجعة وربما سيتبعها مزيد من العمل والتفاصيل.
وشكرا..
• صدرت الرواية عام 2023 عن دار الدراويش في ألمانيا. 218 ص.
** انظر:
New England Journal of medicine. Issue. 2008.